منذ الأحداث المأساوية التي وقعت في يونيو 2007، وترتب عليها حدوث شرخ كارثي في علاقاتنا الفلسطينية – الفلسطينية، حيث تباعدت المسافات والمواقف بين فتح وحماس، وانعدمت الثقة في نظرة كل منهما للآخر، وتدهورت على إثر ذلك جميع أوضاعنا السياسية، وعمَّت القطيعة والخلاف بين أبناء الوطن الواحد، واستشرت الملاعنات والاتهامات والتشكيك في كل سياقاتنا الوطنية، وظلت السيوف مُشرعة ألسنتها، وغابت مع الثرثرات والتجديف السياسي أصوات الحكمة وسبل الرشاد.
في ظل هذا الواقع المأساوي الذي صاحبنا لأكثر من أحد عشر عاماً، لم تتوقف المبادرات ومحاولات إصلاح ذات البين، ولم تبخل شخصية وطنية أو مؤسسة مجتمع مدني أو جهات تنتمي إلى هذا الفصيل أو ذلك في بذل الجهد وتقديم الرأي والمشورة، بهدف جمع الشمل وتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، ولكن – للأسف – لم تنجح أي من هذه المحاولات في أن تؤتي أكلها بالتئام تصدعات البيت الفلسطيني.
عشرات المبادرات ومئات ورش العمل التي رعتها مراكز البحث والدراسات والجامعات ومنظمات المجتمع المدني، وحتى مراكز أبحاث وهيئات أوروبية دخلت على هذا الخط، وحاولت الجمع بين طرفي الأزمة والخلاف؛ فتح وحماس، ولكن دون جدوى!!
حالة من التعنت والاستعصاء التي لا نفهم أسبابها، ولم نستوعب دواعيها متشعبة الخفايا والأبعاد، وإن كان لكل منَّا ما يمكنه قوله في إطار الرؤية والتحليل.
مقاربة فياض: محاولة للخروج من النفق
قبل عامين ونصف العام، طرح د. سلام فياض؛ رئيس الوزراء السابق، مقاربة ورؤية وطنية للخلاص، وذلك في أكثر من منتدى فكري، ثم نشر ذلك في مقالين على فترتين متباعدين، أحدهما بعنوان: "سعي الفلسطينيين للدولة يبدأ من غزة"، والأخر "وداعاً للبكائيات"، حيث أشار فيهما د. فياض إلى أنه جاء الوقت لننهي البكائيات، والدخول الى ميدان العمل الحقيقي، وأن العمل يجب ان يبدأ من غزة، وأنه لا فائدة من تجريب المجرب، ويجب الابتعاد عن الحلول حمالة الأوجه، إذ إن المطلوب - الآن - هو التداعي لعقد الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، وتوسيع رقعة المشاركة، وعقد المجلس الوطني بمشاركة الكل الوطني، وإعادة التأكيد بأن المنظمة هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.. ويرى د. فياض بأنه يجب التعامل مع الاحتلال الاسرائيلي بندية وليس بثقافة السادة والعبيد، وأن هذا يتطلب أن نقر لبعضنا البعض بالاختلاف، وألا نتصارع عليه، وأن نعمل على تعزيز الصمود المقاوم لأهلنا، كما يجب التحرك من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، وذلك باستدعاء عليِّة القوم في السياسة، ليتحملوا مسئولياتهم كاملة، إذ ليس من المقبول أن نبقي واقعنا على حاله ونلعن الظلام، حيث إن الواجب يفرض علينا – اليوم قبل الغد - أن نتحرك بشكل فوري لتغيير هذا الواقع.
ومع أن هذه الأفكار التنويرية تمَّ عرضها والحوار حولها مع مجموعة من النخب الفلسطينية؛ سواء في مؤسسة بيت الحكمة في مدينة غزة أو في مركز مسارات في رام الله، وكانت تحمل الكثير مما يمكن الاجتماع والتوافق عليه، إلا أن حركة فتح – آنذاك - طالت الرجل بألسنة حداد، وأضعفت التفاعل فيما تمَّ عرضه من أفكار، وبذلك خفتت الأصوات التي كان بإمكانها تحريك المبادرة، لتصبح أرضية خلاص لكل من فتح وحماس.
للأسف؛ تمَّ وأد المبادرة ولم يسلم صاحبها من إساءات البعض، برغم وجاهة الأفكار التي تحملها، وصلاحية ما تدعو إليه وتطالب به، بهدف تحقيق حالة من الإجماع بين "الكل الفلسطيني" حول منظمة التحرير الفلسطينية، واغتنام الفرصة لإدماج حركة حماس ضمن إطاراتها، وتوحيد المواقف الفلسطينية على أمر جامع من خلالها.
مبادرة مجلي: رؤية للخلاص الوطني
اليوم يطرح د. عدنان مجلي؛ رجل الأعمال الفلسطيني، مبادرة جديدة لتحريك مشهد الحكم والسياسة، مضمونها يتمحور حول نقطتين:
أولاً؛ فتح باب منظمة التحرير أمام كل القوى الفلسطينية، وفق شراكة وطنية تستند إلى انتخابات عامة أو إلى استطلاعات رأي مهنية محايدة، أو أية وسيلة أخرى تتفق عليها الأطراف.
ثانياً؛ مبادرة حركة حماس، من جانبها، إلى تجميد العمل في تطوير السلاح، ووقف حفر الأنفاق، والموافقة على تحويل كافة القوى والتشكيلات العسكرية في قطاع غزة إلى قوات أمن وطني، تحت إدارة تامة من قبل الحكومة الفلسطينية الجديدة، التي تحظى بثقة الأطراف، وتكون مهمة هذه القوات حماية القطاع من أي عدوان خارجي.
وختم د. مجلي مبادرته بالقول: إن كل القوى مدعوة اليوم إلى التقاط هذه اللحظة، والشروع في بناء تاريخ وطني فلسطيني جديد ومجيد، قائم على الوحدة والشراكة والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والاعتماد على الذات.
هذا الكلام لا يختلف عليه اثنان في ساحتنا الفلسطينية، وسؤالنا الذي نطرحه بغرابة واستفسار: لماذا لم تلق هذه المبادرة آذاناً تسمع واستجابة على مستوى السلطة وفصائل العمل الوطني والإسلامي، تجعلنا نقتنع بأن هناك - فعلاً - من يحرص على إخراجنا من النفق، والأخذ بأيدي شعبنا باتجاه الخلاص؟!!
أجابني البعض بحسرة وألم: يا دكتور.. لقد قَتلنا حكم الفرد واستبداد الفصيل، واتعبنا الشك، ومع غموض السياسة – للأسف - غياب اليقين!! فعندما يتقدم شخص بمبادرة، فإن أول الأسئلة التي تتبادر إلى ذهن القيادات الحاكمة، هي: من هو هذا الشخص؟ ومن يقف خلفه؟ وهل هو منَّا أو محسوب على غيرنا؟ وهل هو خصم أو صديق؟ وهل ما يطرحه يحقق أهدافنا ويتوافق مع رؤيتنا؟ ...الخ
للأسف؛ إن كل هذه الأسئلة نتداولها بقلق قبل أن نُطالع المبادرة أو نطرحها داخل إطارات النخبة لدراستها، ومعرفة الإيجابيات أو السلبيات فيها!!
فيما أجابني آخر: إن الجهات المتنفذة لا تلقي بالاً لمبادرات الأفراد، ولا حتى لمؤسسات المجتمع المدني، وتتعامل مع مبادرات كل هؤلاء باستعلاء وفوقية.. ربما تتعاطي مع المبادرات الرسمية التي تطرحها الدول لتجنب الاتهام، ولهدف جني ثمار علاقة قد تبنيها من وراء ذلك، ثم سرعان ما تتهرب منها، وتُحيل أسباب الفشل والتعطيل للجهة الأخرى!! وهذا ما شاهدناه من خلال المبادرات الكثيرة التي طرحتها جهات عربية وإسلامية، ولكنها سرعان ما تبددت قبل أن يجف الحبر الذي كُتبت به!!
التمكين الكامل أو القطيعة والهجر!!
اعتقدنا بعد اتفاق القاهرة الذي تمَّ التوقيع عليه في أكتوبر 2017 أننا أوشكنا أن نطوي سنوات القطيعة والخلاف، وأن نضرب الذكر صفحاً عن كل ما مضى، وأن نبدأ عهد الشراكة الوطنية، حيث تهللت أسارير أهلنا في قطاع غزة، وكان الاستقبال الحافل لموكب رئيس الوزراء د. رامي الحمد الله.
لم تمض إلا أياماً قلائل حتى فوجئنا بمصطلح التمكين كسيف مسلط على الرقاب، تهاوت الطموحات والأحلام، وحطت بدلاً عنها الكوابيس والأوهام!! انشغلت وسائل الإعلام بجدليات الحوار على شاشاتها فلم تخلُ حلقة نقاشية من تداول هذا المصطلح والتفسيرات التي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى أن بعضنا استدعى تاريخ المصطلح في الكتب الدينية ليجد تفسيراً مفهوماً له، والبعض الآخر ذهب بعيداً ليقرأ لمن نحتوا هذا المصطلح كآدم سميث وغيره من فلاسفة الغرب.
في القرآن، جاء التمكين في سياق أن من حقق لك النصر، وثبَّت أركان الأمر إليك، ينتظر منك الامتثال والطاعة، وهذه مسألة يمكن استيعابها وتفهمها.
أما التمكين الذي أورده مخترع المصطلح آدم سميث، فهو يشير إلى أن جوهر استراتيجيات التمكين، هو مساعدة المجاميع البشرية المهمَّشة، على إنشاء أطرها الاجتماعية المكتفية والسعيدة، وذلك باستخدام الأساس المنطقي الذي مفاده أن الشعب هو وحده الذي يستطيع أكثر من غيره، أن يعرف ما الذي يحتاجه.
وفي كتاب "التمكين: مفهوم إداري معاصر" للدكتور يحيى ملحم، الكثير مما هو مطلوب الاطلاع عليه، لكل من جاءوا بهذا المصطلح الإداري في سياقات سياسية أربكت الساحة، وأعادتنا إلى مربع المراوحة في نفس المكان!!
ولعل في المقولة الشهيرة للرئيس أبراهام لنكولن بعض الدلالات التي تشرح لذوي الألباب المقصود بالتمكين في خلطته الإدارية والسياسية، حيث قال: "يمكنك تمكين الناس بعض الأحيان، ويمكنك تمكين بعض الناس في كل الأوقات، ولكن من الصعب تمكين كل الناس في كل الأحيان والأوقات".
فالتمكين بصفته مفهوماً إدارياً معاصراً يركز على إطلاق طاقات الإنسان وإمكانياته الذاتية بدوافع ذاتية. والتمكين – كما قالوا - يحتاج إلى مقومات طويلة المدى من العلاقة الإيجابية والثقة والشعور بالشراكة بين الأطراف المتعاقدة؛ سواء أكان الأمر في سياقات الإدارة أو السياسة.. والتمكين – بشكل عام – هو مصطلح له تفسيرات متباينة، وذلك نتيجة لاختلاف وجهات النظر حوله، كونه مفهوماً مرتبطاً بالسلوك البشري وبالسلوك التنظيمي والسلوك الإداري وإدارة الموارد البشرية.
وبالرغم من شيوع التمكين مصطلحاً ومنهجاً تطبقه العديد من المؤسسات بأشكال مختلفة، إلا أن هذا المصطلح بقي عصياً على الفهم والوضوح للكثيرين. فبينما يرى البعض التمكين على أنه تفويض للسلطة، يزعم آخرون، بأن تفويض السلطة والصلاحيات ما هي إلا جزء وشكل من أشكال التمكين، وأن التمكين هو في إعادة الحرية المسلوبة من الفرد، تلك الحرية التي يمتلكها أصلاً بفطرته وبما يتوافر لديه من قدرات ذهنية وحسية تمكنه من القيام بعمله باستقلالية وحرية. ومنهم من نظر إلى التمكين على أنه وهم وخيال، والتفسيرات حقيقة لم تشفِ الغليل، ويمكن للتوافق بين طرفي الخلاف السياسي الاتفاق على الضوابط وتقديم شرح يتعاقد عليه الطرفان.
ومن الجدير ذكره، أننا إذا تأملنا في المعنيين؛ الديني والسياسي، لكلمة التمكين كما أسلفنا، وجدنا - قياساً مع واقعنا الذي نتطلع إليه وما يريدونه لنا - أن حجم الفارق بينهما في مساحة الفهم بمثابة بُعد المشرقين!!
وعليه؛ فإن مقاربة "يا بتشيلوا يا بنشيل" كما طرحها البعض ليست حلاً سياسياً، ولا خياراً وطنياً للخلاص، إنما هي منطق الفرد ولغة التفرد، التي لا تريد الشراكة، ولا تأخذ بالتوافق الوطني.
نعم؛ لقد أخطأنا جميعاً قبل 12 سنة، وارتكبنا الكثير من الخطايا والآثام تجاه بعضنا البعض، وكان الطيش والتهور والسيف حكماً بيننا، فوقع ما وقع حين غابت الحكمة، واختلت بوصلة الرؤية والخلاص، وكان حال كل منا في حراكه واجتهاداته الوطنية أشبه بوضعية الذي يمشي "مكباً على وجهه" يتخبطه المس، فكان المشهد السياسي الذي تشرذمت مع ملامحه وتبعاته أوضاعنا ومواقفنا المتعثرة كفلسطينيين، وضاعت معه -للأسف - قضيتنا!!
لقد أعجبتني المقاربة التي أطلقها - مؤخراً - الصديق جمال زكوت؛ سياسي مخضرم، حين قرأ الواقع وخرج برؤيته التي أشار فيها بأن الحاجة ماسة اليوم لتوفير متطلبات النهوض الشعبي على أساس المقاومة السلمية الشاملة، وتوفير مقومات الصمود الميداني لها، من خلال حكومة وحدة وطنية، والصمود السياسي عبر تكريس هذه الوحدة في إطار منظمة التحرير، من خلال مجلس توحيدي جديد قبل نهاية هذا العام، ولحين ذلك من خلال إطار قيادي مؤقت يضم جميع القوى والتيارات والشخصيات المستقلة الفاعلة، وليس الديكورية الموالية، واللاهثة وراء جانبي التخندق والمصالح الذاتية الضيقة.
ختاماً.. نفقٌ في نهاية الضوء!!
في الحقيقة، إن الكثير من المبادرات التي طرحتها شخصيات سياسية وأكاديمية، إضافة لأعداد لا بأس بها من رجال الفكر والأدب ومنظمات المجتمع المدني كان فيها الكثير من الوجاهة، وتشكل طوق نجاة لو تمَّ التعاطي معها وأخذها مأخذ الجد بتوسعة الحوار حولها بين جميع الأطراف الفاعلة على الساحة السياسية، ولكن – للأسف – فإن الكثير من هذه الأفكار ضاعت في متاهات استكبار النخب الحاكمة وذهبت بركة هذه الجهود وورش العمل أدراج الرياح؛ لأن عقليات القادة في الساحة الفلسطينية مبرمجة على منطق "لا أريكم إلا ما أرى"، حيث تغيب المؤسسة وينتشي حكم الفرد، ونصل إلى ما وصلنا إليه من تراجعات وسقوط.
كانت مبادرة د. سلام فياض فيها الكثير من مؤشرات الخلاص لو أخذناها بقوة، وتجاوزنا نقاط الخلاف بيننا بإعادة الحياة لمنظمة التحرير؛ باعتبارها الحاضنة الوطنية ومظلة الشرعية الفلسطينية، والتي تقاربنا – بعد تناكر وخلاف – إلى حالة إجماع وطني حولها، وأن كل ما كان مطلوباً هو إجراء بعض الإصلاحات في هياكلها، لتكون لكل شعبنا هي الممثل الشرعي والوحيد. وبذلك، نقطع دابر الفتنة، وننهي ما شجر بيننا من تدابر وتناحر وخلاف.
اليوم يطرح د. عدنان مجلي هو الآخر مبادرته للإنقاذ الوطني، ولكن – للأسف – لا يبدو أن هناك من يرغب في أن يسمع، ويمد يده للآخرين لتلقف "طوق النجاة"!!