متى وكيف تنسحب إيران من سوريا؟!

التقاط.PNG
حجم الخط

 

رغم رغبة الإيرانيين المُعلنة خاصة التيار المحافظ في البقاء في سوريا إلى الأبد، تواجه إيران ضغوطاً قوية من الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا وغالبية الدول العربية على ضرورة خروج قواتها من جميع الأراضي السورية بأسرع وقت ممكن، وأن عواقب التأخير في انسحاب هذه القوات سوف تكون شديدة الوطأة على إيران التي استباحت الأمن العربي، ومددت نفوذها داخل دول الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة لتشمل سوريا والعراق ولبنان واليمن وقطاع غزة، في تحد سافر لإرادة العرب السياسية، حيث أصبحت إيران طرفاً أساسياً في معظم صراعات المنطقة، تسلح الحوثيين فى اليمن وتحرضهم على إطلاق الصواريخ الإيرانية الصنع على الرياض وجدة، وتبيح لنفسها السيطرة الكاملة على طريق محوري يصل إيران بالعراق وسوريا وصولاً إلى شرق المتوسط، تستخدم في ذلك قوات حزب الله اللبناني وميليشيات الحشد العراقي ووحدات الحرس ألتوري الإيراني.

وقد تضخم بعضها بفضل المساعدات الإيرانية المهولة إلى حد أن أصبح طرفاً في تقدير الحرب والسلام في الشرق الأوسط بكامله دون اعتبار لقواه الأساسية!، وتكاد تجعل من سوريا رهينة لنفوذها، تعطل إنهاء الحرب الأهلية السورية، وتنشر قواعدها الجوية في كل مكان، وتسيطر على سلطة القرار السياسي في العاصمة دمشق، وتعزز قسمة البلاد الطائفية، تذكى مشاعر الكراهية بين السنة والشيعة كي تكون فتنة دائمة حلها الوحيد قسمة البلاد إلى ولايات وكانتونات طائفية!

والأخطر من جميع ذلك كله أنها تعطي لإسرائيل كل المسوغات التي تمكنها من البقاء في هضبة الجولان بدعوى أن إيران تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل، ومن المؤكد أنها تشكل الذريعة الأساسية لحركة قوية داخل الكونجرس الأمريكي، تُطالب بضم الجولان إلى إسرائيل وعدم عودتها إلى سوريا من خلال مخطط واضح تستهدف خطوطه الأساسية، ضخ ميزانيات ضخمة لمشروعات إسرائيلية أمريكية مشتركة تُقام في الجولان، وتوسيع اتفاقات التجارة الحرة بين إسرائيل والولايات المتحدة لتشمل هضبة الجولان، ووسم منتجات الهضبة بأنها صنعت فى إسرائيل لتصديرها إلى الولايات المتحدة، وأخيراً صياغة وثائق سياسية من قبل الكونجرس تعترف بسيادة إسرائيل على الهضبة وعدم عودة القوات السورية إلى المكان.

إنني لا أتكلم عن أحلام تنسجها إسرائيل ولكنني أتكلم عن خطط مشتركة أمريكية إسرائيلية تناقشها الآن إدارة الرئيس الأمريكي ترامب على أمل إعلانها وتنفيذها في غضون شهور إن لم يكن مجرد أسابيع مقبلة!.

ورغم ما أعلنته إسرائيل في ايار الماضي بأنها قصفت البنية الأساسية التي تستخدمها القوات الإيرانية في سوريا، والتي تشمل العديد من القواعد الجوية ومعسكرات الحرس الثوري الإيراني، يُصر الرئيس بشار الأسد على أن الوجود العسكري في سوريا يقتصر على ضباط يساعدون الجيش السوري، وأن القصف الجوي الإسرائيلي الذي قالت إسرائيل إنه استهدف العديد من المواقع الإيرانية في سوريا أدى إلى استشهاد وجرح العشرات من السوريين، ولم يكن بينهم إيراني واحد!

كذلك نفى وزير خارجية سوريا وليد المعلم أي وجود عسكري إيراني في بلاده يتعدى الدور الاستشاري، مؤكداً أن المستشارين العسكريين الإيرانيين موجودون في سوريا بدعوة من النظام السوري، عكس الوجود التركي والأمريكي والفرنسي الذي يمثل عدواناً على سوريا! . وإذا كان الوجود العسكري الإيراني في سوريا يقتصر على مجرد مستشارين ضباط كما يقول الرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم فالأمر المؤكد أن هؤلاء المستشارين يتجاوزون كثيراً أن يكونوا بضع مئات من الضباط، لأن هناك ثمة تقارير أخرى تؤكد مقتل ألفي عسكري إيراني على الأرض السورية منذ بدأت إيران دعم نظام الأسد عقب ما يسمونه ثورة الربيع العربي، لكن المؤكد أن إيران كانت حريصة دائماً على وجود عسكري مهم ومشهود في سوريا، يحمي استثماراتها الضخمة في سوريا التي تتجاوز 30 مليار دولار والتي يبدو أن الإيرانيين مُصممون حتى الآن على البقاء في سوريا لجني المكاسب الاستراتيجية التي يمكن أن تحصل عليها على المدى الطويل، ووفقاً للحسابات التي أجراها الدبلوماسي الإيراني السابق مقصور فارهنح فإن إيران أنفقت ما لا يقل عن 30 مليار دولار على شكل مساعدات عسكرية واقتصادية، بينما يرى د. نديم شحاته في جامعة تافس أن حجم ما أنفقته إيران في سوريا يتجاوز الآن 105 مليارات دولار بمعدل 15 مليار دولار سنوياً في المجالات العسكرية والاقتصادية، لذا ربما يكون صعباً على الإيرانيين في هذه الظروف الجديدة أن يحزموا حقائبهم ويعودوا إلى بلادهم بخفي حنين خاصة إذا كان القرار النهائي في هذه القضية يعود إلى المرشد الأعلى خامنئي والمؤسسات السيادية التابعة له وبينها أجهزة الأمن والمخابرات والحرس الثوري.

وفي تقدير نوار أوليفار الباحث العسكري في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية المقيم في إسطنبول، أن القوات العسكرية الإيرانية تعمل حالياً فى 11 قاعدة عسكرية منتشرة في جميع أنحاء البلاد، بالإضافة إلى تسع قواعد تابعة للميليشيات العسكرية الشيعية الموجودة في جنوب حلب وحمص ودير الزور، فضلاً عن مراكز سيطرة حزب الله التي تتمثل في 15 قاعدة عسكرية ونقطة مراقبة في حلب وعلى طول الحدود اللبنانية، والواضح بالفعل أن الوجود الإيراني في سوريا تتشعب عميق الجذور يستند إلى قوات ومليشيات عسكرية متعددة وإلى مصالح اقتصادية واسعة تقوم عليها شركات كبيرة تعمل في مجالات الزراعة والصناعة وإقامة الشبكات الكهربائية تصدر ما لا يقل عن 105 ملايين دولار من البضائع، كما أقرضت إيران نظام بشار الأسد أكثر من 4.5 مليار دولار.

ومن الصعب في ظل هذه المصالح الضخمة أن ينسحب الإيرانيون من سوريا نهائياً، وإن كان من المرجح أن ينسحبوا تحت ضغوط الروس تكتيكياً من بعض المواقع خاصة في الجولان، وثمة ما يؤكد أن التحالف الذي كان وثيقاً بين سوريا وإيران على الأرض السورية في صيف عام 2015، ينسقان معاً حملة مشتركة لإنقاذ حكومة بشار الأسد يضعف ويفكك بعد أن اختلفت المصالح، وتصاعدت مطالب الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية، وفي الشهر ألماصي كان الرئيس ألروسي بوتين واضحاً عندما أكد للرئيس بشار الأسد بأن القوات العسكرية الأجنبية سوف تغادر سوريا ما إن تبدأ العملية السياسية وتنحسر الحرب التي كبدت سوريا ما يزيد على نصف مليون شهيد، ودمرت معظم مدنها وأسواقها القديمة الجميلة خاصة في حلب وأدت إلى خروج أكثر من 7 ملايين سوري من ديارهم الأصلية بينهم ثلاثة ملايين هاجروا إلى أوروبا عبر البلقان وبحر إيجة أو عبر المتوسط من خلال ليبيا، فضلاً عن الأعداد الضخمة هاجرت إلى الأردن ولبنان والعراق ومصر.

بل ثمة أنباء شبه مؤكدة صدرت عن القاعدة الروسية حميميم على صفحتها في الفيسبوك تقول إن الروس والإيرانيين توصلوا بالفعل إلى اتفاق واضح على انسحاب القوات الإيرانية عن الحدود الجنوبية للبلاد إلى العمق السوري، لتفادي أي اشتباكات أخرى مع القوات الإسرائيلية، بينما أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان انسحاب مستشارين إيرانيين من منطقة تل رفعت في ريف حلب الشمالي إلى بلدتي نبل والزهراء.

ويبدو أن هذا الانسحاب الإيراني التكتيكي من حدود مناطق جنوبي غرب سوريا الملاصقة لقوات إسرائيل في هضبة الجولان لم يرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو الذي أكد في مكالمة هاتفية أجراها الأسبوع الماضي مع كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو حتمية أن تنسحب إيران من كل الأراضي السورية وليس فقط من منطقة جنوب غربي سوريا، وتواصل إسرائيل بالفعل ضغوطها على روسيا باعتبارها صاحبة النفوذ الأوسع والأعظم في سوريا لإجبار إيران على الانسحاب من كل سوريا مهددة بضرب المزيد من المواقع الإيرانية بالقرب من مرتفعات الجولان، أو في أي مكان داخل سوريا، فضلاً عن ضغوط الولايات المتحدة التي وضعت ضرورة انسحاب إيران من كل سوريا على رأس 12 شرطاً أمريكياً لإلغاء العقوبات الأمريكية التي أعادت الولايات المتحدة فرضها على إيران بعد إعلان الرئيس الأمريكي ترامب خروجه من الاتفاق النووي الإيراني.

ولأن منع الوجود الإيراني في سوريا كان يُمثل أولوية قصوى لبنيامين نيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي على امتداد العامين الماضيين، حصد نيتانياهو جهوده الدبلوماسية مع موسكو لإقناعها بأنه ليس من مصلحة روسيا الآن السماح لإيران بتحويل سوريا إلى دولة عميلة لإيران تأتمر بأوامر طهران وقد أدى هذا الفهم الجديد إلى سياسة جديدة، تتبعها روسيا تغمض عينيها تجاه الضربات الجوية الإسرائيلية في سوريا التي تكاد تكون أهدافاً إيرانية، رغم أن روسيا تملك بالفعل القدرة العسكرية والجوية وشبكات الدفاع الجوي التي تلزم إسرائيل عدم التعرض للقوات الإسرائيلية على الأرض السورية، لكن الروس يرون الآن ضرورة انسحاب كل القوات الأجنبية بما في ذلك القوات الإيرانية، خاصة أن كثرة اللاعبين الإقليميين على الساحة السورية يزيد القضية تعقيداً، فضلاً عن أن الحلف الروسي الإيراني القديم يتفكك الآن بصورة واضحة نتيجة الفجوة الواسعة بين مصالح الروس والإيرانيين، وبرغم أن الروس يحاولون إقناع بشار الأسد الآن بالتخفف من عبء الوجود العسكري الإيراني في سوريا ورفع الشرعية عن وجود الميليشيات الإيرانية على الأرض السورية مقابل بقائه في السلطة، لا يزال الموقف الرسمي السوري يؤكد أن الإيرانيين موجودون في سوريا بطلب رسمي من العاصمة دمشق عكس وجود قوات فرنسية وتركية وأمريكية يشكل وجودها على الأرض السورية عدواناً سافراً .

ومن ثم فإن السؤال المهم والأخير هنا، ليس هل تخرج إيران من سوريا ولكن متى تخرج؟ وكيف تخرج؟ لأن تشبث إيران بالبقاء في سوريا سوف يؤدي إلى صدام جديد مع إسرائيل تساندها الولايات المتحدة، في الوقت الذي يستعد فيه اقتصاد إيران لعقوبات أمريكية صارمة وخانقة، بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق الإيراني، فضلاً عن أن إجبار إيران على الانسحاب وضغوط إسرائيل العسكرية وشروط أمريكا القاسية سوف يكون بمنزلة ضربة قوية لهيبتها ومصالحها، في ظل ظروف داخلية صعبة يعاني فيها حكم آيات الله وقوى المحافظين مصاعب كبيرة بسبب تململ الشارع الإيراني، وغضبه المتزايد من التقليص المستمر للحريات العامة والخاصة وزيادة رغبة الداخل الإيراني في التغيير والنفوذ الإيراني المتزايد من سياسات المحافظين وصعوبة الوضع الاقتصادي بعد تطبيق العقوبات الأمريكية الجديدة، لكن إيران تتحمل المسئولية الكاملة بما أحاق وسوف يحيق بها وهي التي جعلت نفسها مثل براقش، عندما اختارت العداء ضد جيرانها العرب، ومدت نفوذها في الشرق الأوسط على حساب مصالح العرب وأمنهم، وسيطرت النزعة العنصرية الفارسية على مجمل سياساتها تجاه السُنة، وعادت دون أي مسوغات رشيدة تضر مصالح العرب وأمنهم .

وأظن أن الخطاب العربي الصحيح تجاه إيران وشعبها لابد أن يعلو على التشفي، لأن الجغرافيا والدين يلزمان العرب السعي الدائم إلى حسن الجوار مع الأخ المسلم إن عاد إلى طريق الصواب، فضلاً عن أن أي صدام إيراني عربي أمر غير مطلوب ينبغي تجنبه، سوف تكون نتيجته الوحيدة إحياء مظلومية كاذبة لا تستند إلى أي أساس، وتعطيل تفاعل عملية تطور داخلي تجري الآن داخل إيران تراكم كل يوم نتائج جديدة في مصلحة الحرية والديمقراطية وضد جماعات العنف الراغبين في تصاعد الثورة إلى الخارج وإن غداً لناظره قريب.

...عن «الإهرام» المصرية