حسنًا فعل ياسر عبد ربه، عضو اللجنة التنفيذية المقال من منصبه كأمين سر الذي تبوأه منذ انتخاب محمود عباس رئيسًا، بألّا يجعل قضية إقالته هي جوهر رسالته التي وجهها إلى رئيس وأعضاء اللجنة التنفيذية، لأن هذه المسألة على أهميتها وما شابها من تجاوزات ما هي سوى فرع صغير وتحصيل حاصل، ومجرد مؤشر على الخلل الذي يعيشه النظام السياسي الفلسطيني بمختلف مكوناته: الرئاسة، والقيادة في السلطة والمنظمة، والفصائل، والنخبة السياسية الفلسطينية بشكل عام، مع تحميل القيادة صاحبة السلطة والإمكانيات المسؤولية الأولى والأساسية.
يمكن أن تفسر رسالة عبد ربه على أنها أتت مجرد ردة فعل على إعفائه من منصبه، أو بأنها قفز من السفينة قبل غرقها؛ إلا أن من الأمانة القول بأن عبد ربه قال بأنه سيحتفظ بعضويته في اللجنة التنفيذية، وطَرَحَ في السنوات الأخيرة ما قبل إعفائه، وخصوصًا أثناء العدوان الأخير على غزة، مواقف مختلفة عن تلك التي طالما دافع عنها، فهو من رموز المنظمة وأحد أعضاء «الخلية المصغرة» التي ساهمت في التوصل إلى «اتفاق أوسلو»، وهو أحد القيادات البارزة التي كانت في «مطبخ» الرئيس الراحل ياسر عرفات، ومقرّب جدًا من الرئيس الحالي أبو مازن لسنوات قليلة خلت.
كما أنه عضو في اللجنة التنفيذية منذ أكثر من أربعين عامًا، وأحد أعضاء فريق المفاوضات لفترة طويلة، ورئيس للمفاوضات النهائية إلى حين استقالته في العام 2000 احتجاجًا على إقامة أكثر من مسار للمفاوضات، وعلى المناورات الإسرائيلية التي استهدفت إضاعة الوقت والإيحاء بأن هناك مفاوضات جادة يمكن أن تؤدي إلى نتيجة.
وارتكب عبد ربه غلطته الكبرى بتوقيع «وثيقة جنيف» التي قدمت نموذجًا سيئًا حول كيف يتفاوض أعضاء قياديون فلسطينيون بمباركة رسمية مع إسرائيليين هامشيين لا يمثلون قوى لها شأن، ويقدمون لهم التنازلات من دون الحصول على شيء، سوى على شهادة حسن سلوك من حكام واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم الأوروبية والعربية.
لماذا لم يراجع عبد ربه في رسالته «وثيقة جنيف»؟ وعليه أن يتحمل ويحمّل القيادة مسؤولية الأخطاء ووصولنا إلى ما نحن في. بالرغم من كل ذلك، فإن الاعتراف بالذنب - وإن جاء متأخرًا وناقصًا – فضيلة، ويجب تشجيعه، خاصة عندما يأتي من شخص بهذه المكانة والتاريخ والخبرة.
جاء في رسالة عبد ربه «ينبغي علينا الاعتراف صراحة بأن خطتنا السياسية منذ أوسلو حتى الآن قد فشلت فشلًا ذريعًا وتامًا، وإن رهاننا على حل يؤدي إلى إنهاء الاحتلال عن أرض وطننا عبر المفاوضات كسبيل أوحد انهار كليًا».
وأضاف «إن إنقاذ وتجديد مشروعنا الوطني يتطلب مبدأ الشراكة الوطنية الشاملة والتوافق على مشروع للصمود والمقاومة الشعبية ضد الاحتلال بمشاركة واسعة تشمل الجميع، بمن فيهم حركتا حماس والجهاد الإسلامي. وإن المفتاح الأساسي لنهوض هذا المشروع هو استعادة الوحدة بين غزة والضفة، ومشاركة كل مكونات الحركة الوطنية في برنامج الصمود والمقاومة، وتأسيس مركز قيادي موحد، من خلال الدعوة إلى عقد الإطار القيادي المؤقت للمنظمة التحرير لمعالجة كل المهام الجوهرية، بما فيها تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء انتخابات عامة، أو التوافق على تشكيل مجلس تأسيسي لدولة فلسطين».
إن كل المواقف السابقة لعبد ربه تشكل تطورًا مهمًا، خصوصًا إذا ثابر وبنى عليه، إلا أنها تطرح تساؤلات عديدة:
أولًا: إن المأزق العام في القيادة والفصائل والنخبة السياسية الذي انعكس إلى خلل جوهري في مختلف مكونات النظام السياسي الفلسطيني، والمخاطر الجسيمة التي تهدد القضية الفلسطينية في هذه المرحلة؛ تتطلب مراجعة شاملة وعميقة وجريئة للتجارب الفلسطينية على اختلافها، وتوضح الأسباب والجذور لما وصلنا إليه، وترسم معالم طريق الخلاص الوطني والتغيير والتجديد، فلا يكفي نعي طريق «أوسلو»، فخيار المفاوضات وصل إلى طريق مسدود، بينما لم يستطع خيار المقاومة المسلحة تحقيق الأهداف، وأصبح في ظل الهدن المتلاحقة التي تقترب من هدنة طويلة الأمد كوسيلة للدفاع عن السلطة والمصالح الفئوية أكثر ما هو إستراتيجية طويلة الأمد للتحرير الكامل.
ثانيًا: كيف يمكن إنقاذ المشروع الوطني إذا لم يتم إعادة تعريفه؟ وهل يشمل القضية الفلسطينية بكل أبعادها، والشعب الفلسطيني أينما تواجد، أم يشمل إقامة دولة فلسطينية على حدود 67 أو في حدود 67، أو ضمن «دويلة» في غزة تترافق مع هدنة طويلة مع الاحتلال وتقاسم وظيفي في الضفة، أو «دويلة»على ما تيسّر من هذه الأراضي من دون حق العودة، أو وضع هذا الحق على مائدة المفاوضات للتوصل إلى حل متفق عليه على أساس التسليم بـ «مبدأ تبادل الأراضي» وضم «الكتل الاستيطانية» والقدس «عاصمة» لدولتين، والموافقة على «معايير كلينتون» التي تسلّم باستحالة عودة اللاجئين إلى الديار التي هجروا منها، وأن أقصى ما يمكن الحصول عليه عودة عدد رمزي من اللاجئين ضمن قانون «لم الشمل» الإسرائيلي وليس تطبيقًا لحق العودة؟
ثالثًا: هل إقامة دولة فلسطينية بعد استيطان وتهويد الأرض، وخصوصًا القدس، وفي ظل تطرف الحكومة الإسرائيلية وخططها لإحياء خارطة «إسرائيل الكاملة»، وتهجير الفلسطينيين، وزيادة عدد المستوطنين إلى مليون مستوطن خلال سنوات قليلة، وعدم توفر أي إرادة أميركية أو دولية أو أوروبية للضغط على إسرائيل، وفي ظل ما تشهده القضية الفلسطينية من تهميش وما يشهده العالم العربي من حروب وتقسيم وانتشار للمنظمات الإرهابية والتكفيرية؛ لا يزال هدفًا قابلًا للتحقيق، أم صعبًا إلى حد الاستحالة، وإذا كان الأمر كذلك، فما هو البرنامج البديل: هل هو حل الدولة الواحدة، أم استبدال حل الدولتين بحل الحقوق، بما يشمل إنهاء الاحتلال لأراضي 67، وحق العودة للاجئين، والمساواة لشعبنا في داخل أراضي 48؟
رابعًا: هل تكمن المعضلة في المشروع، أو في إستراتيجيات وأدوات تحقيقه فقط، أو في كل ما سبق، إضافة إلى المسؤولية البارزة لبنية النظام السياسي بمختلف مكوناته، والعلاقات الداخلية، وغياب العمل الجماعي والمشاركة والمؤسسية والمساءلة والمراقبة والمحاسبة واحترام حقوق الإنسان وحرياته؟
خامسًا: تظهر نقطة الضعف في ما قدمه عبد ربه في أنه يضع مفتاح الحل بيد من أوصلنا إلى ما نحن فيه، من خلال دعوته إلى عقد انتخابات عامة أو مجلس تأسيسي، أو عقد سلسلة من الاجتماعات للجنة التنفيذية، التي تكلّست وهرمت وفقدت الرؤية والقدرة والإرادة، ولم يتم تجديدها، ومغرقة بالأشخاص الذين بلغوا من العمر عتيًّا، أو يمثلون فصائل لم تعد موجودة؛ لذلك نلاحظ أن دوائرها مجمّدة، وموازنتها خاوية، ومعظم أعضائها لا مهمات لهم، وبعضهم يشغلون وظائف خارج مسؤوليات اللجنة التنفيذية برئاسة مؤسسة، أو بلدية، أو بتسلم حقيبة وزارية، إضافة إلى عضويته في التنفيذية.
لا يعقل أن يكون العلاج بتعليق الآمال (الأوهام فعلًا) في انتظار أن تقوم اللجنة التنفيذية أو أن نطالبها بالقيام بالتغيير والتجديد والإصلاح والمراجعة؟ هذا يعني أننا مثل الذي «ينتظر غودو» الذي لن يأتي أبدًا.
علينا أن نواجه الحقيقة بأن الكيان الذي تمثله المنظمة شرعي، ولكنه يعاني من موت سريري، وقيادته انتهت شرعيتها، ومن الطبيعي أن يكون الحل من خارجها، وفي أفضل الأحوال من داخلها وخارجها في نفس الوقت.
هل هذا يعني موقفًا عدميًا من كل ما هو قائم ودعوة إلى المغامرة وإحداث قفزة في المجهول؟ لا طبعًا، بل دعوة إلى تشخيص دقيق للواقع حتى نتوصل إلى علاج مناسب، من خلال تنظيم حوار وطني شامل تشارك فيه القيادات القائمة حاليًا، إلى جانب ممثلين عن مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني وقطاعاته وأطيافه، بما في ذلك مشاركة واسعة للشباب والمرأة والشتات، الذين من دون مشاركتهم الفاعلة لا يمكن التوصل إلى رؤية جديدة وخارطة طريق كاملة.
وينبثق عن هذا الحوار اتفاقات بتشكيل مجلس تأسيسي يكون بمثابة مجلس وطني جديد يتفق على عقد اجتماعي وبرنامج وطني، ويختار إطارًا قياديًا مؤقتًا إلى حين إجراء الانتخابات العامة، ويعيد النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها، بما يتناسب مع الحقائق الجديدة والخبرة المستفادة وتجاوز إسرائيل لكل الاتفاقات، ولا يتخلى رسميًا عن هدف إقامة الدولة على حدود 67 حتى لا تتنصل إسرائيل من مسؤوليتها عن موته، ولكن يفتح الطريق لتبني خيارات وبدائل أخرى تستجيب لخصائص القضية الفلسطينية، وتستند إلى ما يجمع الشعب الفلسطيني، وتأخذ بالحسبان الظروف المتباينة لتجمعاته المختلفة.