المتوكل طه "عمّي والأشجار"

thumb.jpg
حجم الخط

كُنّا نعبر إلى تلك الطريق الترابية المُفضية إلى الحقل، فيقف منتصباً، ويترك ذراعي، ويضع عكّازه تحت إبْطه، ويمشي راسخاً واثقاً، ويجول بعينيه بين أسراب الحمضيات، ثم يصل إلى حاكورة الزيتون، ويعرّج منها إلى الخرّوبة ومنها إلى أشجار الرُّمّان واللّوز والتين، ثم يصل إلى شجرة التوت، الهائلة الحجم، التي تظلّل مساحة بيت كبير تقريباً، وقد اتّخذ ظلّها ديواناً له، بعد أن فَرَد الحصيرة، ووسائد القش الصّلبة، وفي المنتصف من القعدة ترى موقد النار والأثافي الحجرية التي يصمّد فوقها إبريق الشاي، وجرّة الماء والكيلة التي يغرف بها الماء، ليتوضأ أو ليغسل الإبريق ويشطف الكاسات أو يشرب منها.

 

كان يتّكئ بظهره على جذع التوتة، ويمدّ ساقيه، ويراقبني وأنا أشعل النار لأطبخ الشاي على الحطب الخفيف، فيضع ثلاث ملاعق سُكّر في كأس شايه، ويروح يتلمّظ بذلك العنبر الأرجواني الفوّاح بالمريميّة أو زعتر الجبل، وأحياناً يأمرني أن أقطف بعض أوراق ليمون طرية لأغمسها في كأس الشاي ليعطّرها.

 

- والرّبيع جامحٌ دائمٌ في حقل الرّجل –

 

كان حديد ذاكرته ينجلي ويسطع عندما يتحدّث عن حاكورة الزيتون، فيذكر اليوم والشهر، عندما زرعها، ومتى أثمرت، وكم تُعطي كلّ سنة من حبوبها، ويعدّد أشجار الحمضيات، فيؤكدّ الساعة التي حفر فيها لوضع الغِراس في الحقل، وكيف أعطى لكلّ شجرة اسماً، فهي عائلته التي يجلس معها، وينادي كلّ فردٍ فيها، ويحاكيه ويحدّثه، ويمسّد كلّ ورقة وغصن وثمرة، ثم يؤكّد أنّ الشجرة التي تجلس تحتها وتُمَلّس عليها وتمرّر يديك على فروعها وتشمشم زهورها، تعطيك ثمراً أكثر من الشجرة المهجورة التي لا تصادِقها! عليك أن تُصاحب أشجارك وتتذاكر معها أيامك، وتسْمِعها شكواك وتبثّ إليها شجونك، وتدعوها لتفرح معك! إن الشجر إنسان صامت فتحدّث إليه، يدرّ عليك بعسله ويعطيك أقصى ما يستطيع، انظرْ هناك إلى الخروبة عزيزة، كيف تتدلّى أصابعها السمراء! هل تصدّق أنني كنتُ أغفو، أيام الصيف تحتها، فأصحو وقد هبطت غصونها وغطّتني! وهل تؤمن أنَّ هذه التوتة كانت تفرد أوراقها فوقي، حتى لا أشعر ببردٍ أو تصلني أفعى أو عقرب!

 

ستقول إنَّ عمّك مجنون! يتخيّل أشياء غريبة! لا يا ولدي، إنّ شجرة البرتقال عندي تُعطي ضعفي ما تحمله أيّ شجرة في الأنحاء! إنها تنفجر مع الضوء.

 

هل تعرف لماذا، لأنني أُجالس كل شجرة، وأطمئنّ عليها، وأسألها حاجتها، وأربِت على غصونها، وأحضن فروعها، وأمسح يديّ على جذعها، ولا أتركها حتى أحسّ أنها راضية!

 

-الحُبّ يلوّن الأشجار، والحبّ واحدٌ، لكنّه لا يكون إلا باثنين-

 

ويَسرح وتتوزّع أهواؤه ويغيب عنّي، ثم يقول: الشجر حَنُون، له عاطفة جيّاشة، يشعر بصاحبه، ويمتصّ حزنه، ويعطيه دفعة دافئة تخلّصه من الكآبة، إسألني أنا، حتى إن الليمونة تلك الفارعة زاخرة الثّمر، هل تصدّق أنها كانت تمدّ غصنها وتدنو منّي لأقطف حبّة منها، كلّما احتجت، ودون أن أطلب منها ذلك؟

 

ويضحك وتنشرح ملامح وجهه، ويضيء! ثم يقول: يجب أنْ تعلم أنّ الشجر يخجل مثل الآدميين! نعم إنه يخجل، ويغضّ الطرف، ولا ينظر إليك إن كنت.

 

كنتَ ماذا يا عمّي؟

 

يقهقه وينشرح ويقول: كنتُ يوماً قد خنستُ إلى حُضن زوجتي، وقد غلبني الشّغف، وكان لها رائحة العسل، فأردتُ أن أغمس الوردة في جرّة الشّهد، ويبدو أننا انجرفنا في اللحظة العميقة، إلى أنْ وقعت الرّعدةُ وسالت العسيلة، وما إن انتهيتُ ورُحتُ أرتدي ثيابي، حتى رأيتُ أنّ الشجر يتّجه بوجهه إلى الناحية الأُخرى، لقد استحى من فِعْلتنا، تخيّل!

 

أنتَ لا تصدّق! مُش ضروري، لأنّك جاهل، ولن تفقه ما أقول، لكنكَ إذا، وسكت ..

 

أكملْ، ما بكَ يا عمّي؟

 

قال بحزن: لقد طارت السماواتُ من فوق رأسي، وتحرّرتُ من الأرض! ألم تنتبه إلى أننا لم نرَ طيراً واحداً، أين ذهبت العصافيرُ والحساسين والشنّار؟

 

هذا نذير شؤم أن تغيب الطيور عن البساتين والحقول، ثمَّ لماذا أحضرتَني إلى هنا؟ لقد أتعبني بكاءُ الأشجار؟

 

لا أفهم ما تقول يا عمّي؟

 

قال: ألم ترَ الأشجار تبكي عليّ، وتعاتبني على غيبتي عنها؟ وتهزّ أغصانها أسفاً على أنني هجرتها، بعد أنْ كانت تذوب فيّ!

 

قُلْ لها إنني أحبّها، وإنني أنادي عليها شجرةً شجرةً، وأراها قبل نومي، وتتراءى لي في أحلامي، وتحضر في مخيالي أوّل ما أصحو من نومي، وصاح: أنا أُحبّكِ، أقسم بالله إني أُحبّكِ! وألقى عكّازته ونهض مثل غزالٍ يقِظ، وراح يحتضن الأشجار، ويمشي وهو يمدّ ذراعيه يمرّرها بين غصونها، ويعتذر منها، ويبكي، ويحدّثها مثل نبيٍّ مع صديقه القديم.