الوساطة والوسيط، والكياسة والسياسة..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

أشرتُ، في مناسبات مختلفة، إلى الفرق بين تعبيرين: "عملية السلام"، و"صفقة القرن". عاش الأوّل ربع قرن. أما الثاني، فيزيد على العام بقليل. وقد أصبح قيد التداول منذ أوائل العام الماضي، بعد فوز ترامب بالبيت الأبيض. يُفترض بالتعبيرين أن يُعبّرا عن الأمر نفسه، أي التوصل إلى حل تفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فكلاهما من لغة الأميركيين، الذين اختاروا لأنفسهم، وما زالوا، دور مهندس الوساطة، وكبير الوسطاء.
وإذا كان ثمة من وسيلة للتمييز بين التعبيرين، فينبغي العثور عليها في حقيقة أن الوساطة الأميركية، في "عملية السلام"، لم تكن بين الفلسطينيين والإسرائيليين بقدر ما كانت محاولة لجسر الهوّة بين معسكرين، ووجهتي نظر مختلفتين، في إسرائيل، بشأن مستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة، وما نجم عن محاولة جسر الهوّة حدّد فعالية الوسيط، ومعنى الوساطة.
أما "صفقة القرن" فتعني النوم في معسكر بعينه، وتبني وجهة نظر بعينها، طالما أن الخلاف بين المعسكرين، ووجهتي النظر، لم يكن على الغاية بل على الوسيلة. وأن التحوّلات الإقليمية والدولية، والمحلية الإسرائيلية، أبطلت الكثير من ذرائع المعسكر الآخر، وأضعفت وجهة النظر الأخرى.
فإذا جاز لبوتين أن يفعل في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، ما يشاء، وإذا جاز لبشّار الأسد أن يفعل بشعبه ما يشاء، وإذا جاز لأميركا ترامب تقويض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، في كل مكان، بما وكما تشاء، وإذا كان العالم العربي جثّة تعفّنت، وإذا كان اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل، وكل مكان آخر، في صعود ونماء، فلماذا لا يحق لإسرائيل أن تتصرّف بمصير الفلسطينيين كما تشاء؟
ولعل في هذا ما يُفسّر الفرق بين الحساسية اللغوية، واللياقة السياسية، التي وسمت تعبير "عملية السلام"، وتسم، اليوم، تعبير "صفقة القرن". فالأوّل، الذي ينتمي إلى زمن مضى وانقضى، يستدعي مهارات إخراج الأرنب من القبّعة، بما فيها بلاغة السلام، وتسامي القيم، أما الثاني، وليد الآن وهنا، فلا يحتاج إلى أكثر من آلة حاسبة، ودفتر شيكات، وشركة تسويق، وكاتب عدل، ومحامي عقارات.
بيد أن وضع اليد على الفرق بين التعبيرين يمكن أن يأخذنا إلى ما هو أبعد، أي إلى ما اختلف عليه المعسكران، وتباينت بشأنه وجهتا النظر: حاضر ومستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة. في العام الماضي، مثلاً، بلغ الاحتلال عامه الخمسين، وترافقت المناسبة مع دراسات اجتهد أصحابها في تفسير "أطول احتلال في التاريخ"، لماذا، وكيف استمر حتى الآن.
ولعل من بين أبرزها كتاب عالم الاجتماع الإسرائيلي غيرشون شافير المعنون: "نصف قرن من الاحتلال: إسرائيل، فلسطين، وأكثر صراع استعصاء على الحل في العالم"، الذي تقوم فرضيته الرئيسة على فكرة أن الاحتلال استمر؛ "لأن مشروع بناء الدولة لم يُستكمل بعد". وهذه فرضية مُفيدة، تماماً، بقدر ما تستدعي من تساؤلات بشأن "مشروع الدولة"، ودلالة كماله أو نقصانه، في المخيال السياسي لبناة الدولة أنفسهم، وما تلاهم من صانعي القرار، في سدة الحكم، وخارجه، ومكان ومكانة الضفة الغربية وقطاع غزة، منذ، وعلى مدار، خمسة عقود، في المشروع.
ومن حسن الحظ أن المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابي يُزوّدنا في كتاب، صدر قبل عامين، بعنوان: "أكبر سجن في العالم: تاريخ المناطق المُحتلّة" بمفتاح جديد يُوسّع أفق التفكير في فرضية شافير. والواقع أن الفلسطينيين يدينون بالكثير لبابي، الذي اختار لنفسه وظيفة الدوام في معمل الحقيقة التاريخية على مدار العقود الثلاثة الماضية.
ويتمثل مفتاح بابي الجديد في تحفّظات يبديها بشأن مفردة "الاحتلال"، التي يُراد لها اختزال هوية وماهية الوجود الإسرائيلي، في المناطق المُحتلة، على مدار خمسة عقود. فدلالة المُفردة، وهي الوحيدة المُتداولة في القاموس السياسي، لا تنسجم مع الأدبيات والقواعد الدولية في موضوع الاحتلال، بل وتمثل استثناء لكل المرجعيات.
لذا، ثمة ما يبرر، والكلام لبابي، التفكير في تعبير آخر يختزل حقيقة هذا الوجود. وهذا ما يعثر عليه في تعبير الاستعمار الاستيطاني. وبهذا المعنى تتجلى مفردة الاحتلال، في تحليله اللامع، كقناعٍ مُضلل لظاهرة سقطت وأُدينت، في كل مكان آخر من العالم، ولكنها تحيا وتزدهر، في فلسطين، وعلى حساب الفلسطينيين.
وبهذا نعود، والعود أحمد، إلى المعسكرين، ووجهتي النظر، ودور الوسيط، ومعنى الوساطة. فحرب العام 1967، التي وقعت في مثل هذه الأيام، قبل واحد وخمسين عاماً، حسمت نتائج حرب العام 1948، بما فيها الاستيلاء على أراضي الدولة العربية المنصوص عليها في قرار التقسيم، وطرّد القسم الأكبر من السكّان. وهذا ما تجلى، على الجانب العربي، في شعار إزالة آثار العدوان، بعد حزيران. بمعنى أن ما سبق من احتلال خرج من التداول.
ولنفكر، الآن، على النحو التالي: ما أنجبت العلاقة الجدلية بين "مشروع دولة لم يكتمل"، وهوية وماهية "الاستعمار الاستيطاني"، على مدار خمسة عقود مضت، تجلى في سلسلة حروب، ومفاوضات، ومناورات، لحسم نتائج حرب العام 1967، بما ينسجم مع المشروع، ويخدم الهوية والماهية.
لذا، لم يكن الخلاف بين المعسكرين، ووجهتي النظر، على المشروع، ولا على الكولونيالية، بل على أفضل الطرق لتحقيق هذا وتلك، وعلى ما تستدعي الطريق المُثلى من تنازلات، أو تعديلات، لا تهدد المشروع، ولا تنال من الهوية والماهية. وبما أن معسكراً تفوّق على الآخر، ووجهة نظر بعينها أصبحت أكثر وجاهة من غيرها، لم تعد الوساطة لجسر الهوّة مطلوبة، ولم يعد الوسيط معنياً حتى بالكياسة والسياسة.