قصة قصيرة: الحَكَوَاتي...
حام سعيد في أزقة قريته "صُمِّيل الخليل"، وقد أحسَّ في نفسه رغبةً في قضاء بعض الوقت في خِرْبَة "أبو عرَّام" جنوبي القرية، حيث ملتقى الأصحاب عندما يأتي المساء في أيام الصيف القائظ، ولعله يلتقي اليوم ببعض أترابه الذين يألفهم ويألفونه، فيتسامرون ويُسَرِّي كلٌّ عن نفْسِه بما يتناقلونه من أخبار القرية، وبما يتدارسون بينهم ما استجد من آراء وأحداث سياسية تَهُمُّ فلسطين كلها. وقبل أن يوغل في طريقه قاصداً الخِرْبَة، عَدَلَ عن ذلك، واستدار عائداً من الطريق التي أتت به، فقادته إلى مفترق طرق، كما اقتاده عقلُه إلى مفترق طرائق متباينة، ولكنه قبل أن يَقَرَّ على رأي، طرأ له أن يرتاد مقهى القرية التي طالما يلوذ بها كلما استعرتْ في صدره الأشواق، واستبدتْ به كوامن الأشجان، فيجِد فيها ما يبحث عنه من تفريج وترويح عن النَّفْس.
كانت الشمس تميل إلى الزوال، حين نشط هواء القرية الرقيق يلفح الوجوه بنسائم منعشة، تُغري بالسياحة وتَحُثُّ على الخروج من بيوت الطِّين إلى الخلاء الرحب العريض، بعد نهار مُتْخَمٍ بالعمل الشاق. فالأيام في القرية تتشابه: ينسحب النهار، ويهجم الليل، وكلاهما بين كَرٍّ وفَر... والحياة هي الحياة... والساعات رتيبة الإيقاع دون جديد ودون تجديد، والإنسان على سفوح القهر يتدحرج، يتوجَّع في صمت العابدين الناسكين السالكين طريق الآلام، فما إنْ ينتهي من عمل حتى يبدأ يعيده... ويُطلُّ عليه وجه الابتلاء من بين الغمام هازئاً منه، ويسأل سعيد نفسه : ما الفرق بيني وبين " سيزيف " ؟ .
وبينما كان سعيد يمشي محمولا على أعناق الهموم والأكدار في أزقة القرية متجهاً إلى المقهى بخطوات ثقيلة، تناهى إلى سمْعِه ضجةٌ فيها خليط من الأصوات التي تتعدى أسوار المقهى، وتَسْرِي في طرقاتها وأزقَّتها على أجنحة الرياح. فانتبه سعيد وتيقَّظ فيه كل شيء، فما إنْ رآها تعجُّ بالحاضرين حتى فَرَكَ كَفَّيْه، وتلمظ مبتسماً، إذ مَنَّى نفسه بقضاء سويعات ممتعة، فتَعَجَّل الخطو، وخطا إلى الداخل، واختار لنفسه مكاناً غير بعيد من منصة الحكواتي. وما إنْ استقر على كرسيه وهدأتْ أنفاسُه، حتى أقبلتْ عليه أنسامٌ غربية تنساب رقيقة، تداعب وجهه وشعر رأسه من تحت حَطَّتِه وعِقاله، فأغمض عينيه وشهق شهقة طويلة، ثم زفر ما بجوفه من هواء، ثم فتح عينيه، فإذا بالحكواتي يأخذ مكانه من المنصة، يستعد لحديث طويل فيه مُتعة وفيه تسلية وفيه أُنس يمزق رداء الوحشة، فاشرأبتْ إليه الأعناق، وتطلعتْ إليه العيون، وانحبستْ الأنفاس وساد الصمت أرجاء المقهى.
كان الراوي رجلاً في العقد الخامس من عمره، ربعي في طوله، يرتدي القمباز الشامية المقلَّمة، ويعتمر رأسه بالحطَّة البيضاء والعقال الأسود. يجلس على كرسي من القش وبين يديه كتاب أصفر مهلهل الأوراق باهت الصفحات كلون وجوه الفلاحين التي كلحتها أشعة الشمس، وإنه إذا تكلَّم تجده ذَرِبَ اللسان، يسيل حديثه على بساط العقول سلساً رقيقاً. والرجل حاد الذكاء والفراسة، يحسن اختيار القصص التي يحبها الناس، ويحسن سردها بأسلوب ممتع لا يستعصي فهمه على أحد، وإنَّ لديه القدرة الفائقة على جذب الحاضرين، وامتلاك عقولهم وعواطفهم بحكايات مُسَلِّية تكثر فيها مواطن الإثارة والتشويق.
ويتـنحنح الراوي... ويبتلع ريقه كمن يُليِّن أوتار صوته.. ويملأ صدره بشهيق طـويل، ويطـوف
بعينيه على وجوه الحاضرين يستقرئُها... فيرى فيها إقبالاً منهم وتلهُّفاً لديهم، وينطلق صوت الراوي:
- الله يمسيكم بالخير.
ويَرُدُّ الحاضرون بصوت واحد، فيه نبرة توحي بالإقبال عليه والترحاب به، والدعاء له.
- الله يسعد مساءك.
ويلملم الراوي نفسه، ويستجمع قوته، ويشحذ لسانه، ويقول بصوت يتهادى مخترقاً الأسماع في نشاط:
- كان يا ما كان، يا سعيد الإكرام، ما يطيب الحديث إلا على ذكر النبي محمد – عليه الصلاة والسلام- .
ويردد الحاضرون ما بين الجهر والهمس:
- عليه الصلاة والسلام.
- يُحكى أنه في الزمن الغابر، قد هبط الحظ العاثر، على شاب من الأبطال معدود، ومن الأتراب محسود، جلس يوماً إلى بعض الرجال، بعد أن حَطَّ الرِّحال، على شاطئ الجزيرة فوق الرمال، والبحر من أمامه، يمخر السفين عبابه، وهو يئن من عذابه، قال الراوية، قال الشاب: " رأت أمي في منامها ذات ليلة حُلْماً مفاده أنها ستلدني، وأني سأخرج من أحشائها على هيئة جذوة نار مشتعلة، تحرق المدينة، وتأتي على كل شيء فيها، فتتركها رماداً ". وصَحَتْ أمي مفزعة، وقد تأجج الرعب في حناياها، تلوك رؤياها، وتسترجع صورها ومرآها، وقد بدتْ شاخصةً أمام عقلها الباطن... فأمْضَتْ ما تبقى من ساعات تلك الليلة ساهدة، وقد أمَضَّتْها أخلاطٌ من الْهَم والكآبة والحزن الدفين، وكان يُسمع من بين أنفاسها اللاهثة صوت الأنين. وفي الصباح، أسرعتْ أمي إلى عَرَّاف المدينة، فقصَّتْ عليه رؤياها، وأظهرتْ مخاوفها وخباياها، وانتظرتْ... فكان التفسير في حجم الحُلْم رُعباً، إذ قال العَرَّاف لأمي: " إنكِ يا مليكتي ستلدين طفلاً يتمُّ على يديه خراب المدينة " . واستشارتْ أمي أبي في أمر هذا الوليد الآتي مسرعاً من خلف الضباب... يشق خيمة السحاب، يفقأ عين القمر وينزل مع المطر، وإنه يحمل بإحدى يديه سيفاً يَتوهَج، وبيده الأخرى حزمة من ألسنة نيران تتأجَّج، وبعد تداول الأمر بينهما انتهيا إلى قرار تقرَّرَ نفاذُه، فهان عليهما فراقي. فما إنْ خرجتُ إلى الدنيا حتى أخرجاني من حياتهما، فحملني أحد العبيد وبأمرهما وسَّدني فوق حافة جبل؛ تحت سفحه غابة كثيفة، وتركني للموت، لعل طيراً جارحاً ينوشني أو تفترسني ذئاب البرية وينتهي أمري، ولكن قضاء رب الأرباب قد خالف إرادتهما، فوقعتُ في الغابة وبقيت حياً، فتلقفتني دُبَّة، فأرضعتني وربَّتني وتعهَّدتني بالرعاية حتى نشأتُ على يديها كما أرادت لي أن أكون، فكنتُ منها مُقَرَّباً، وإلى قلبها محبباً، ولا غرو في ذلك، إذ كنتُ تلميذها النجيب، عن مرمى بصرها لا أغيب، فحفظتُ عنها تعاليمها من كل شيء عجيب.. وصرتُ فتيّاً، وهي لا تفتأ توصيني قائلة: " أيها الفتى تَذَأَّب وإلاَّ أكلتكَ الذئاب ". وعندما تيقنتْ من فتوتي واشتداد عودي، أعتقتني وسمحتْ لي بالخروج من الغابة لمخالطة أبناء جنسي من البشر، بعد أن زَوَّدتْني بقوس وكنانة، محشوة بحزمة من السهام، لدرء أخطار الوحش وشرور الأنام، وأنا ما برحتُ سن الطفولة إلى أعتاب الصِّبا بعد.
ومشيتُ اتَّـكِئ على شجاعتي معتمداً على قوتي وحيلتي، وبينما كنتُ في طريقي أسير على غير هدى، أقطع السهول والوديان، وأرتقي الجبال والهضاب، وقد أنهكني الجوع والتعب وأهزلني العطش والنَّصَب، فارتقيتُ وَهْدَة من الوِهاد، ورأيتُ ذوات الأكباد، فملأتُ معدتي من صيودي، وكان إلى ماء الغدير وُرُودي؛ فارتويتُ واغتسلتُ ثم نمتُ وقتاً لا أعلمه، وصحوتُ على صوت جهوري يوقظني... كان راعياً عجوزاً، سَمْحَ المُحَيَّا، طيب الرائحة، هادئ القسمات، يصحب قطيعاً من الأغنام، وفرساً فَتِيَّة يماسحها مُهْر جميل... جذبتني هيأتُه ووضاءةُ طَلَّتِه، فابتسم لي وجلس يحادثني، ولم يطل به الوقت حتى عرف أني لا أُحسن الكلام، وتجاذبنا بلغة الإشارة أطرافاً من الأحاديث متفرقة، فألمَّ بحكايتي واستهوتْه قصتي، فعرض عليَّ ملازمته، وقد كان الرجل كريم الخِلال، حسن الجواب، طيب السؤال، تبنَّاني ورعاني وأحسن إليَّ، فأحسنتُ وزدتُ في الإحسان إليه، فقد كنتُ له سراجاً وهَّاجاً، وكنتُ له في شيخوخته عُكَّازاً وسياجاً يحميه من غوائل الوحش وغدر الإنس. وطُويتِ الأيام، وتتابعتِ السنون، وانطلق لساني بالكلام، يعبِّر عن خفايا الرؤى والأحلام، وانجلتْ صورتي عن صفات وسمات، وبان شبابي اليافع، وبَدَوْتُ قوي الجسم، مفتول العضلات، حاد الذكاء والفطنة، جميل الوجه وسيم الطَّلْعَة. وفي زمن استوى فيه الشباب على شواطئ نفسي، تململ الشرُّ في صدري، فكم حاولتُ وكم عانيتُ في أن أصرفه عني، وأصرف نفسي عنه بالصيد والمطاردة، ولكن عبثاً كان ذلك... وعندما كنتُ أضيق بالحياة أو عندما كانت تضيق بي الحياة... كنتُ أذهب فأتكئ على ضفاف نهر صغير، أُمتِّع ناظريَّ بمياهه، وبجمال حورية ما كانت لتراني حتى تبتعد عني، ولكنها مع مرور الأيام أَلِفَتْ وجودي، واعتادت وجهي، فاكتفيتُ بها عن صيودي، وأقبلتُ عليها راضياً ناعم البال هادئ الحال، وأخذتْ تلاطفني بحركاتها، وتداعبني بغمزاتها، وتمالحني بأرق الحديث، فوقعتْ من نفسي وقلبي موقعاً حسناً، وبادلتني إعجاباً بإعجاب، فطابتْ نفسُها لمرآي، وأحبتني كما أنا أحببتها، وتأجج ذياك الحب يدفئ قلبينا، ويصفي الودَّ بين كلينا، فتصفو به غرائزنا. وتمرُّ الأيام فإنْ هو إلا شيء بدأ يتململ في نفسي، شيء لا قدرة للكلام على وصفه حين أراها تتراقص أمامي، وتُشَنِّفُ أُذُنَيَّ بصوتها العذب الطروب، تتغنى بالحب الذي جمع بيننا، فأجرى المحبة في صدرينا، وجعلنا نأتلف... فطاب عيشي، وسهل مقامي، وتفتحتْ الدنيا ربيعاً زاهراً أمامي... فأحس الراعي العجوز مني ذلك، فزوجنيها...
وفي يـوم من الأيام، بينما كـنـتُ في خــبائي أسكـن إلى زوجي، انهمـرتْ عـلى مسامعي
أصداءُ صَخَبٍ وضجيج على غير العادة... فخرجتُ، فإذا برجال الْمَلِك قد وقع اختيارُهم على الفرس، يريدون انتزاعها من صاحبها الراعي العجوز... ويسلخونها من مهرها الجميل... و... وقد قُدِّرَ لي أن أمنع الفرس، وأصدُّ هجمةَ الحَرَس، ولكنهم أجبروني على سماع حكايتهم إذ قال زعيمهم: " إنه أمرُ المَلِك... وأمره لا بد نافذ..." . ولأني لم أفهم، استوضحتهم، فأوضحوا لي، إذ انبرى زعيمهم قائلاً: " أيها العبد.. يا عبد المَلِك المُعَظَّم... إنَّ المَلِك يعتزم أن يقيم حفله السنوي للمصارعة بين الأبطال، وإنه كَلَّفنا بأمره أن نبحث له في أرجاء الأرض عن فرس ليس لها مثيل بين أفراس المملكة، ليقدمها جائزة مَلَكِيَة لبطل الأبطال الذي يصرع الرجال، وإنه بأمر المَلِك سينعم عليه بتحقيق ما يتمنى... وسيكون له مشيراً ووزيراً ".
استهوتني هذه الحكاية، وقدمتُ لهم الفرس، فنَقَدُوا الراعي العجوز ثمنها كيساً به عشر ليرات من الفضة... ولكن الراعي العجوز استنكر ذلك مني، وزمجر منصرفاً عني، غاضباً بنفس لوّامة، فتركته يُعنّفني، ويثور في وجهي، وبلواذع السباب يقذفني، حتى هدأتْ نفْسُه واستراح نَفَسُه، فواسيْتُه وطمأنْتُه مؤكداً له على عودة الفرس إليه، وأوضحتُ له عما يدور بخلدي... وصرَّحتُ له عن رغبتي في منازلة الأبطال، وعن عزمي على أن أختبر حظي بين صناديد الرجال.
وجاء اليوم الموعود، فأبكرتُ متجهاً صوب المدينة، وقدَّمتُ نَفْسي للمشاركة، فرغبوا عني أول الأمر لغرابة هيئتي، فما زلتُ بهم حتى كنتُ أحد المشاركين، وكنتُ أول الفائزين الذي صارع فغلب المحترفين، فأثارت قوتي ورشاقتي وحسن لعبتي، إعجاب المَلِك والمَلِكَة، فقرَّبني المَلِك منه وأدناني ومنحني الفرس... ومنحتني الملكة جوائز كثيرة، كان أشدها خطراً هو الحب والحنان، فينفذان إلى الجِنان. وضمَّتْني إلى صدرها ضمة لا يستطيع الكَلِم أن يصف حرارتها، أو يصنِّفَ نوع هذا الحب الذي هيَّجَ صدري، وألمحتْ للمَلِك حقيقة إعجابها بي وحبها لي، وطلبتْ منه أن يضمني إلى مجلس الحرب في البلاط الملكي، وأشارت عليه أن يُنَصِّبني مستشاره الخاص في فنون الحرب والقتال، فاستجاب لها وأخذ بمشورتها، وأصبحتُ صاحب عزٍّ وسلطان، على مقربة من قلب المَلِكة ويدها، أقيم في قصرها وتحت نظرها، وأنا ما زلتُ مأخوذاً بها منجذباً لها، ولا أدري سبباً لهذه المشاعر.
وفي يوم استأذنتُ المَلِكَ في رحلة قصيرة لتوديع أهلي وترتيب أمري، ثم أعود... وما إنْ وصلتُ إلى خـباء الـراعي حـتى تَهَلَّـلَ وجهُـه بِشـراً، ورفـرفتْ على شفتيه ابتسامة أسيرة، وفتح لي ذراعيه، فاحتضنني بكل ما في السماء من محبة ومودة... وكانت سعادته غامرة عندما رأى الفرس صافنة، تحمحم بصوت حنون مفعم بالشوق والحنين والسرور بالرجوع إلى الديار والنجوع، وأسمعتُ الراعي العجوز ما كان مني في حَلَبَة المصارعة ومنازلة الأبطال الفرسان بحد السيف وقوة الأبدان... ورويتُ له ما كان من أمري، وما كان من المَلِك وزوجه المَلِكة... فأيقن الراعي أن أمراً خطيراً سوف يقع... فما هو؟، وأين ومتى؟. إنه لم يفصح عن شيء. وعندما جاء ميعاد مفارقته توادعنا، وأهداني الفرس حيث رفض أن يأخذها، واكتفى بالمُهْر الذي فُصل عن أمه... وودعتُ زوجي الحورية التي امتنعتْ عن ترك النهر واللحاق بي.
وعدت إلى حيث استقر بي المقام في القصر الملكي، أتفيَّأ في ظلال المَلِكة التي أنفقتْ عليَّ من حبها الدافق الحنون الذي لا أعرف كنهه ولا أستطيع وصف مذاقه وطعمه، وكنتُ تحت نظرها وسمعها، تغسلني كل صباح بأحرِّ قبلاتها، وتفرش لي الأرض بأرق ابتساماتها، لا تجعلني أغيب عن أعين فؤادها وأنا أقوم على إعداد وتدريب المقاتلين على فنون الحرب والقتال...
* * * * *
وتمر الأيام يعقبها أيام، وتنجلي الليالي فتسفر عن نهارات تتهيأ للرحيل، إلى أن كان ذات مساء، استدعاني المَلِك، وكلَّفني بفض نزاع نشب بين ثلاث مَلِكَات من بنات الآلهة، تنازعن على تفاحة من الذهب لا تُعطَى إلا للأجمل، وكان نزاعاً عنيفاً، إذ كان كل واحدة منهن تحرص على أن تكون الأجمل فتفوز بها، وتتوج ملكة للجمال، وتَدِلُّ به على جميلات الكون الأخريات.
وما إنْ علمتْ ثلاثتُهن أني الحَكَم الذي سيفـصل في هذا النزاع حتى أخذتْ كلٌّ منهن بالتودد إليَّ وإغرائي بالهدايا والوعود..، فقد عرضتْ علىَّ أولاهُنَّ القوة والسلطان ومُلْك كل البلدان، وعرضتْ ثانيتُهُنَّ الفكْرَ ومصباح المعرفة الذي يكشف لي حُجُبَ الجهالة فأكون أهدى الناس وأعلم الناس وأحكم الناس ... أما الثالثة فهي إلهة الحب، فقد جاءتني تعرض عليَّ أجمل نساء العالم، وتَعِدُني بأن تهبني إياها وتزوجني بها، فتغمرني بالحب والجمال، وتُعَيِّشُني معها عيشة راضية كأني في رحاب جَنة عالية، فحكمتُ لها، وفَضَّلْتُها على الأُخرييْن، واصطفيتُها ملكة للجمال على نساء العالمين، فكانت "أفروديت" إلهة الحب والجمال التي توجها الملك بإكليل الآلهة في عُرس ملكي مهيب.
وذات ليلة جاءتني " أفروديت"، وقد طلبتْ مني أن أستمع إلى مشورتها، وأنفّذ تعليماتها دون تردد ودون مجادلة ودون إبطاء من أجل أنْ تَبَرَّ بوعدها وتفي بعهدها، فقبلتُ... فأشارت عليَّ أن أقطع البحر إلى الشمال، وأعبره إلى المدينة التي ترسو على الشاطئ المقابل، ففعلتُ حيث استقبلني مَلِك المملكة الشمالية وزوجه المَلِكة استقبالاً حسناً يليق بمقامي؛ إذ ذاع صيتي وانتشرتْ أخباري ووصلتْ إلى كل مسمع، فأدنياني منهما دُنُوَّاً رقيقاً، وكأنهما يخطبان ودي، ويستميلان إليهما قلبي وحبي... فمال القلب إلى المَلِكة الشمالية منذ اللحظة التي وقع نظري عليها، كذلك مالت بقلبها إليَّ، فغازلتني بلحظ عينيها واحتضنتني بذراعيها، وأحسستُ بأنامل الحب تلامس شغاف قلبي، وبأنفاسه تُوقِد الرغبة في صدري، وتقتفي أثر الغرائز الكامنة بين جوانحي، فأستشفي ببلسم يسيل رائقاً من شفتيها حين ضَمَّنا ليلٌ حنون، وتواصينا على البقاء معاً بزواج أبدي لا فِكاك منه ولا انفصال إلا بمفارقة الحياة عن كلينا...
وفي إحدى الليالي العسلية زارني طيف إلهة الحب" أفروديت"، فأخبرتني أن الملكة التي دغدغ حبُها فؤادي، ووقعتْ من نفسي موقعاً طيباً، هي الملكة " هيلينا " أجمل نساء العالم، وأنها تدبَّرتْ أمرها ونجحتْ في أن جمعتني بها لتكون زوجي، ثم أوصتني في نهاية اللقاء، بالرحيل وإياها، حيث افتقدني في موطني ملك الجنوب وزوجه الملكة اللذان ينتظران عودتي. وألمحتْ إلهةُ الحب أنها ستتدبر خطة هربنا أنا والجميلة إلى موطني في أقرب فرصة سانحة، وأنها ستتدبر ذلك في خفاء عن العيون...
وفي صباح أحد الأيام، أعلن ملك الشمال عن رغبته في تفقد أحوال بعض الجزر عرض البحر تنفيذاً لكلمة منه قد سبقتْ، فخيَّرنا بين مصاحبته وبين البقاء، فاخترنا البقاء... وركب هو البحر في موكب ملكي مهيب، إذ تناثرت السفن الحربية حوله، تطفو على اللجة الزرقاء. وما إنْ أوغل الموكب الملكي في عرض البحر، وما إن أظلَّ المساء بردائه الشفاف أرجاء المدينة، وأطلَّ القمر بنوره على استحياء فغمر الشواطئ الحزينة؛ حتى غادرتُ وبصحبتي ملكة القصر"هيلينا" على ظهر سفينتي التي جرتْ بنا جريَ الخائفين، ووصلنا إلى مدينتنا في مملكة الجنوب، وأقيم لنا حفل استقبال ملكي مهيب، حضره المَلِك والمَلِكة وكبار الآلهة، وأولادهـم وبناتهم، وقـد أحـاطـته إلـهة الحــب والجـمال
باهتمامها ورعايتها وبلمساتها الجمالية، فخرج إلى الدنيا في أبهى صورة...
ولما عاد ملك الشمال من رحلته الطويلة، التي استغـرقـتْ بضعة أشهر، افـتـقـد زوجه
الملكة "هيلينا" ، فعلم برحيلها مع ضيفه "باريس" أمير الحب والحرب في مملكة الجنوب، الذي حلَّ عليه ضيفاً، فأحسن استقباله، وأكرم وفادته، وأنزله منزلاً سهلاً... فثارت ثائرته، ولكنه كظم غيظه، وقرر أن يزحف على مملكة الجنوب منتقماً من الخائن، مسترِداً زوجه التي مازال يظن أنها رحلتْ مع ضيفه قَصْراً على غير إرادتها تاركة وراءها ابنتها الطفلة... فنُفِخ في الصُّور، وقُرعتِ الطبول، وجُيشتِ الجيوش، وتَجمعتِ السفن ثم تحركتْ تمخر عباب البحر بالمقاتلين الثائرين لرمز الكرامة الوطنية، قاصدةً صَوْبَ الجنوب في هَبَّة " قُرَشية " وبنخوة عربية! لإعادة الشرف السليب. وما إنْ وصلتِ الجحافل الشاطئ الجنوبي حتى أفرغتْ مِن بطونها رجالاً أقوياء، متأهبين لمنازلة الصناديد الأشداء وقهر الأعداء، فهم لا يحسنون إلَّا الطِّعَان وتفتيت الجِنان، ولا يبغون من وراء ذلك إلا رضا الملك عليهم بما يرتضيه لهم. وجاء النفير إلى جيش الجنوب، فدُقَّتْ طبولُ الحرب، وكان الجيش قبالة الجيش، كلٌّ مستنفَرٌ، وكلٌّ متحفز لقتال مرير، وكلٌّ متأهب ينتظر أمر القائد... والموت ينتظر فاغراً فاه، وقد أغراه الموقف بوليمة دسمة، فكم من الرجال سيُهلَكون بسبب نزوة امرأة فاجرة! وكم من مدينة ستحترق بسبب خطأ رجل عابث، أساء لنفسه وحمَّل شعبَه وِزْرَه ... وكأني به لم يتعظ، بل استمر في غَيِّهِ إذ لم يجد مَن يُوقفه عن ضلاله، ويعيد الحقوق إلى أهلها من خلاله !. ودارت رحى الحرب تهرس الرجال وتجندل الصناديد على سفوح الجبال، وألسنة النيران تــتــلــوى وهي تـحــرق السفــن عــلى الشـواطئ فوق الرمال، واحــداً وخــمسين يـوماً بـتـمامها، إلى أنْ نُصِب الفخُّ، فأَدخـلَ الجنوبيون الهزيمة إلى ديارهم حين أدخلوا الحصان الخشبي الضخم إلى مدينتهم " طروادة " - حاضرة مملكة الجنوب... إذ انشق بطن الحصان في عقر الدار، وخرج منه الأبطال الشماليون الذين جرى على أيديهم خراب المدينة – حاضرة مملكة الجنوب. فكيف جرى ذلك؟ وماذا جرى بعد ذلك؟!...
* * * * *
توقف الحكواتي عن الكلام عندما سُمِعَ صوتُ المؤذِّنِ يدعو إلى صلاة العشاء، وكان الحاضرون في صمت ووجوم، يتابعون بأسماعهم وبأبصارهم حكاية الحرب والغرام، يستعينون بخيالهم على تجسيد الأحداث، فتتوافر لديهم عناصر المتعة والتسلية. وكان سعيد في غياب تام، فقد أطلق لخياله كل عنان، فتعاقب على وجهه النور والظلام، والعبوس والابتسام. ويلملم الحكواتي نَفْسَه وأوراقَه وهو يتطلع إلى الوجوه المشدوهة وإلى العيون المشدودة، فيبتسم مزهواً ويقول: - وللقصة تتمة، تكشف الغُمة عن "هيلينا" وفتاها الذي فتنها... وإلى لقاء قريب .
وينهض الحكواتي وينهض الحاضرون كلٌّ في طريق، وبينما كان سعيد يتعثر في طريقه الظلماء، إذ مال إليه أحد الأصحاب، وهمس له في أذنه بضع كلمات، فأجابه بثبات : " إن شاء الله "... وأوسع سعيد الخطو بجد ونشاط وقد تهلَّلَ وجهُه ولمعتْ عيناه، وتمتم مبتسماً: لبيْكَ... لبيْكَ يا وطني!. ثم أخذ يتغنى وهو يغذُّ السير:" أعيدي يا صحاف المجد ذكرى مَن ملأ الكون نصراً وحبوراً، انشري يا صحائف التاريخ أخبار مَن غمروا الأرض بُشرى ونوراً، وحتماً سيفيض الطوفان فيحطِّم السفينة المنكودة؛ وسيغرق كلُّ المتاجرين بإرث قريتي، البائعين لتاريخ أجدادي في المزاد الأممي، وسيلقَوْنَ ثبوراً . * ا ه.
(القصة مستوحاة من" الإلياذة – للشاعر اليوناني: هوميروس").