على ضوء قيود الرقابة الخانقة ورعب الملاحقة فضّل الكتاب الناقدون في المعسكر الاشتراكي في القرن الماضي الامتناع عن مهاجمة السلطة بشكل مباشر، وبدلا من ذلك فقد عملوا بين فترة واخرى على تجنيد ابداعات كبار الفنانين، البعيدة عنهم في الزمان والمكان، على أمل أن يصل الحكام الى عمق مواقفهم.
واذا حدث ذلك فان الحكام لن يجرؤوا على منع الجمهور من الاقتراب من كنوز الثقافة العالمية وقمع روح الإنسان.
سيواجه المبدعون الاسرائيليون في المستقبل غير البعيد تحديات مشابهة: بعد استكمال جهود تطهير الثقافة الاسرائيلية، لن يستطيع الفنانون في اسرائيل معارضة ورفض الاحتلال والمستوطنات، دون الدخول في مخاطرة ودفع ثمن باهظ.
احدى الطرق التي يمكنهم استخدامها من اجل «الحاق الضرر» بمشاعر الجمهور، الذي هو شريك في انتهاك حقوق شعب آخر، ستكون شبيهة بتلك التي كانت في شرق اوروبا الشيوعية: التركيز على الابداعات الكلاسيكية بهدف استخراج رسائل انتقادية تكون ملائمة للوضع الاسرائيلي. ذكرى موت انطون فابلوفيتش تشيخوف (1860 – 1904) فرصة لاجراء تجربة حول ابداع أحد كبار الكتاب الروس. على هامش القصة أو في مركزها، احدى القصص القصيرة لتشيخوف «بيت وطبقة وسطى»، نجد الجدل بين الكاتب، الذي هو رسام للمناظر الطبيعية ويقسم وقته بين الفن وبين الكسل الكامل وبين ليديا ووفولتشالينوفا، معلمة في مدرسة الاقليم ونشيطة من اجل دفع التعليم الشعبي وانشاء العيادات في المناطق النائية.
حسب الكاتب فان العمل المواظب ليس فقط لا يخدم هدفها المعلن – مصلحة الشعب – بل العكس، فهو يعمق عبوديته. إن اقامة المزيد من المدارس الشعبية والمكتبات العامة والمستشفيات للفلاحين، في الوقت الذي يقسم فيه المجتمع الروسي الى أسياد وعبيد، فان هذا يعطي الشرعية للطريقة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية المشوهة. ترفض ليديا هذا الامر، وتتحدث عن موت ابنة أحد الفلاحين اثناء ولادتها، الامر الذي كان يمكن منعه لو كان هناك مستشفى قريب، في الوقت الذي لا يمكن فيه، حسب قولها، انقاذ «الإنسانية» دون أن يخدم الانسان أخاه الانسان.
هذا الجدل ليس بعيدا عن واقع الاحتلال الاسرائيلي، كل ما يتعلق بمنظمات حقوق الانسان الاسرائيلية التي تهدف الى التخفيف عن الحياة اليومية للفلسطينيين أمام الدكتاتورية العسكرية للاحتلال. متابعة ما يحدث على الحواجز لمنع التعدي على الفلسطينيين، وزيادة الرقابة على اعمال جيش الاحتلال لمنع قتل الابرياء، الصراعات القانونية ضد الاعتقالات ومصادرة الاراضي – ألا يعطي كل ذلك الاحتلال الاسرائيلي صورة طبيعية، وبالتالي المساهمة في تحرره؟.
أم أنه لا يمكن انقاذ الانسانية، ووضع حد للاحتلال بسبب تأييد القوة العظمى لاسرائيل وبسبب دعاية الكارثة الاسرائيلية، التي تنجح في تخليد ذكرى الكارثة من اجل استمرار استعباد ملايين الفلسطينيين – لم يبق سوى مساعدة المقموعين من أجل قضاء يومهم بأقل قدر من الإهانة وضياع حياة الناس.
يجب طرح الطريق الثالث والمتداخل على منظمات حقوق الانسان : استمرار المقاومة ضد الجرائم «الصغيرة» للاحتلال، وفي الوقت ذاته إقامة أجسام سياسية خاصة تعمل في الساحة الدولية بطول نفس وتصميم من اجل توسيع عدم شرعية الاحتلال والمستوطنات وإظهار التهديد الوجودي الذي تتعرض له اسرائيل بسبب جرثومة الاحتلال الذي يضعضع الشرعية حول حق الشعب اليهودي في تقرير المصير.
هذه أسئلة معقدة جدا ولا توجد اجابات بسيطة عليها. لكن من الضروري أن تقوم منظمات حقوق الانسان بنقاشها بشكل مستعجل والسعي الى بلورة الاستنتاجات العملية. كل هذا طالما أنه لا يمكن نقاش هذه الاسئلة مباشرة وبشكل علني ودون وساطة الابداعات الفنية الكلاسيكية.
عن «هآرتس»
لا أفقَ قريباً لحلول عسكرية أو دبلوماسية
26 سبتمبر 2024