كتب عدنان حسين أحمد- بما أنّ رواية وارث الشواهد للكاتب الفلسطيني وليد الشرفا هي رواية قصيرة فلاغرابة أن يسارع الروائي إلى زجّ القارئ في قلب الحدث من دون مقدمة مُسهبة، ففي الصحفة الأولى يعرف المتلقي أن الوحيد لقبًا، و صالح تسمية يقبع الآن في سجن الدامون القريب من قريته عين حوض التي تحولت لاحقًا إلى عين هود بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1948.
ولو توخينا الدقة لوجدنا أن جديد هذه الرواية ينحصر بأربعة عناصر وهي النسق السردي بصيغة الاستقبال سين ، والثانية في رفض الروايات الأصــــوليــــة الدينية المكرّسة والاصطفاف إلى جانب الإنسان الفلسطيني الذي دفع ثمن هذه الروايات التي تمجد الغيب والأساطير الخرافية التي لا تقيم وزنًا للعقل العلمي الذي يضع الأمور في نصابها الصحيح.
والثالثة في محاكمة القُضاة الجلادين علنًا بدل الضحايا، والرابعة في تعددية الأصوات السردية التي تنقلّت بين الوحيد، والدكتور بشارة، والكاتبة المسرحية ريبكا، زوجة الوحيد، وابنتهما الرسّامة ليلى، ولعل هناك عناصر جديدة لم ننتبه لها في أثناء كتابة هذا المقال.
على الرغم من سلاسة الأنساق السردية للرواة الأربعة إلاّ أن صوت الراوي العليم قد أربكتهُ سين الاستقبال وبدت ثقيلة على مدار الصفحات السبعين الأولى من الرواية حينما يسترجع الوحيد قصة استشهاد أبيه، ودفنه في قبر مؤقت على حافة الطريق، ثم نقله إلى منزل الأسرة حيث يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل في هذه الرواية بمقاربة تقنية جميلة أفسدتها عدم قدرة الكاتب على تفادي سين الاستقبال القريب واستبدالها بـ سوف التي تفيد معنى الاستقبال البعيد الذي كان يبغيه الراوي الأول.
وبما أن الأم كانت تخشى عليه من الموت في الانتفاضة الأولى فقد وافقت على سفره إلى أمريكا حيث سيقيم في بيت خاله الذي غادر حيفا عام 1965، وسوف يتقن اللغة الإنكَليزية بسرعة، ويواصل دراسته العليا في التاريخ ليفكك أساطيره التي رسخت في أذهان البشرية جمعاء. وهناك سوف يتعرّف على الكاتبة المسرحية ريبكا، ويتزوجها بعد قصة حُب طويلة، وتنجب له ليلى الرسامة التي انهمكت في رسم البيوت الثلاثة التي عاش فيها الوحيد في عين حوض، ونابلس وأمريكا. وفي أثناء أحد العروض المسرحية يتعرف على بشارة، الطبيب المسيحي من مدينة الناصرة الذي سوف يرافقه في رحلة علاج جده سليمان الصالح من نابلس إلى مشفىً في حيفا بعد أن يحصل على تصريح للدخول في الأراضي الإسرائيلية. وحينما يموت هذا الجد ويدفن في المنزل الكبير للأسرة يصحبه بشارة إلى بار في بلدة عين هود التي حولها المحتل الإسرائيلي إلى قرية للفنانين لأنها دولة تقدس الفن والجمال! وفي مرحاض البار يرى الوحيد شاهِد منزل جده صالح المحمود الذي بني عام 1922 فيشعر بأن لحية جده تتمرغ بالبول والبراز، فتثور ثائرته ويشتبك مع شرطيين إسرائيليين ويضرب أحدهما بالحديد الذي اقتلعه من الشباك فيلقى الشرطي حتفه، أما الوحيد فيظل يصرخ: أريد الشاهد، ولا أريد قتل أحد لكن هراوات الشرطة تنهال عليه عليه بالضرب المُبرِّح وتحطِّم أسنانه، ومع ذلك يطلب من بشارة أن يكتب حكايته.
لو قسّمنا الرواية إلى أربعة أقسام بحسب الرواة أو الشخصيات الأربع التي تناوبت على سرد الوقائع والأحداث فإن القسم الأول الذي هيمن على نصف الرواية تقريبًا هو الذي تداخلت فيه الأزمنة والأمكنة والشخصيات التي وفدت من أمريكا إلى فلسطين ودولة الاحتلال. وهناك تعرّف على ريبكا، وبشارة وترك فيهما أثرًا لا يمكن مَحْوه. إن جمال هذا التداخل السردي هو الذي أنقذ الرواية من السقوط في النمطية أو فخّ البناء التصاعدي الذي ألفناه في السرد العربي التقليدي.
إن حضور شخصية بشارة بوصفه طبيبًا مسيحيًا مُحايدًا استطاع أن يتعايش أول الأمر مع الإسرائيليين ولكن ما إن تتكشّف الحقائق في ذهنه حتى يعيد حساباته من جديد ويستغل فرصة عيد ميلاد زوجته ماري ليقيم معرضًا لصور المثقفين الفلسطينيين أمثال صلاح خلف، وديع حداد، غسان كنفاني، كمال ناصر، ناجي العلي وآخرين غير أن الشرطة الإسرائيلية لم تمنحهم الوقت الكافي للاستمتاع بحفلتهم البيتية إذ سرعان ما تأتي الشرطة وتسلّمه مغلّفًا يحتوي على أمر عسكري بالإقامة الجبرية في منزله. ثم تتفاقم الأمور ليتحول بشارة من طبيب إلى سجين متهم بالتواطؤ وخيانة الدولة. يقترح بشارة على أم الوحيد أن يسترحم المحامي المحكمة بحجة أنه غير متوازن، وكان ضحية للعنف لتخفيف الحكم لكن الوالدة تعتقد أن يموت الوحيد سليمًا أفضل من أن يعيش مريضًا . أما الراوية الثالثة فهي زوجته ريبكا التي يُفترض أن تكون محايدة وقد بعثت ملفًا للدكتور بشارة ملتمسة منه أن يترجمه، وينشره حرفيًا لأنه ينطوي على شهادتها، وتجربتها، ورؤيتها للوحيد، ومع ذلك فهي لم تثق بالترجمة مهما كانت دقيقة لأنها لا تنقل ظلال المعاني، ولا تُمسِك بالمشاعر الكامنة خلف السطور. تشير الراوية الرابعة وهي ليلى ابنة الوحيد إلى أهمية تدوين المحاكمة، خصوصًا وأن والدها المتهم بقتل الشرطي طلب منها أن تدوّن كل شيء لأنه سيعرّي القاضي، ويكشف تاريخ عائلته إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الوحيد يتوفر على بعض الخصائص الخارقة التي تتجاوز القدرات البشرية المألوفة. ربما تتركز الثيمة المحورية في مرافعة الطبيب المتهم بشارة الذي خاطب القاضي عندما هدّده الأخير بسحب الجنسية الإسرائيلية منه قائلاً: ماذا سأخسر ؟ سأعود فلسطينيًا نقيًا .
الروايات الإسرائيلية كثيرة وقد خدعت العالم طوال العقود السبعة الماضيات وقد أوقعت الناس في شرك الأساطير الزائفة التي لن يتخلصوا منها في القريب العاجل وما عليهم إلاّ أن يضعوا ثقتهم في الحضارة الغربية التي تقدس العقل البشري، وتحترم المنجزات العلمية بوصفها حقائق دامغة تقف بالضد من الأساطير والروايات الأصولية المخادعة التي فككها الوحيد كدارسٍ للتاريخ الغربي في محاولة للخروج من الأسطورة.
على الرغم من نجاح هذه الرواية إلاّ أن لغتها ظلت عادية جدًا ولم تعطِ الإحساس لقارئها بأنه يقرأ نصًا أدبيًا متوهجًا. وقد قرأت له ذات مرة حوارًا يقول فيه بأن هذه الرواية قد استغرقته أربع سنوات إلاّ أنها لم تسلم من الأخطاء اللغوية التي تؤرق المتلقي الذي يقرأ نصًا جميلاً فهو يسمّي الماعزة أو المعزاة بـ الماعز الأم ، ويجمع كلمة بالون بـ بلالين في أكثر من موضع مع أن بالونات هو جمع معروف وشائع بين الكُتّاب، كما أن مثنى كلمة كفّ التي تعني راحة اليد مع الأصابع هي كفّان وليس كفتان التي قد ترد في المحكية وليس في اللغة الفصحى. كنت أتمنى على وليد الشرفا أن يتوخى الدقة خلال السنوات الأربع التي كرّسها لكتابة هذه الرواية الجميلة في تقنيتها ومضمونها الإنساني العميق.