إذا كنت تعتقد أنّ أفعال الحكومات مرتبطة بأقوالها، ها هي تصريحات موسكو عن واشنطن وواشنطن عن موسكو تثير الاضطراب أكثر فأكثر. في حين أنّ الولايات المتحدة تميل إلى الحذر في انتقاء كلماتها، إنّ استراتيجيتها العسكرية الوطنية الجديدة هي آخر مثل عن التحذير الرسمي المتزايد من خطر اندلاع نزاع مباشر بين البلدين. قد تتأثر منطقة الشرق الأوسط التي تُعتبر منطقة استراتيجية مليئة بالمنافسة وعدم الاستقرار ببعض من عواقب هذا الاحتمال.
تذكر الإستراتيجية التي وقّعها رئيس هيئة الأركان المشتركة أنّ «احتمال تورط الولايات المتحدة في حرب بين الدول مع قوة عظمى ضئيل ولكنه يتزايد»، في إشارة ضمنية الى نزاع عسكري محتمل مع روسيا أو الصين.
في حين أن هذه العبارة ذُكرت في الصفحة التالية لصفحة ورد فيها الإخلاء الذي يذكر بأنّ «لا دولة من هذه الدول [روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين التي وُصفت بأنها دول تتحدى النظام الدولي] تسعى علناً إلى صراع عسكري مباشر مع الولايات المتحدة أو حلفائها»، فإنّ هذه الإستراتيجية تعكس تغيّراً في تفكير الجيش الأمريكي وتسعى إلى إبرازه.
ماذا يهمّ الشعب في الشرق الأوسط من إعادة صياغة أميركا لتقرير حكومي لم يقرأه سوى بعض الأشخاص من خارج مؤسسة الأمن القومي الأميركي؟
إنّ هذا الأمر مهمّ لأنّ التقارير ووثائق روسيا المماثلة تقدّم إرشاداً رسمياً للقادة العسكريين والمخطّطين في البلدين. ويزيد الشعور بأرجحية حصول نزاع مباشر من أهمية التخطيط والاستعداد، حتى ولو كان ذلك مستبعداً. قد تساهم الجغرافيا السياسية والجغرافيا والطاقة وعوامل أخرى بسرعة في توريط الشرق الأوسط في مبارزة مماثلة. نذكر هنا المقولة المزعومة للبولشفي الروسي الثوري ليون تروتسكي الذي قال في إحدى المرّات، «قد لا تكون مهتمّاً بالحرب ولكنّ الحرب قد تكون مهتمّة بك».
قد يكون للمنافسة الشرسة التي لا تصل إلى حدّ الحرب تداعيات خطيرة على المنطقة. عملياً، يشجّع ازدياد احتمال نزاع مسلّح بين الولايات المتحدة وروسيا المخطّطين العسكريين الأميركيين على إعادة تقييم وضع القوة الأميركية العالمية.
إذا حصل نزاع مع موسكو، هل الجيوش والسفن والطائرات الأميركية منتشرة في الأماكن المناسبة؟
هل ينبغي للولايات المتحدة نقل بعض من طاقمها العسكري من الشرق الأوسط أو مناطق أخرى إلى أوروبا التي يعتقد الكثيرون أنّها ستكون تحت الضوء في حال وقوع مواجهة كهذه؟
يجب على قادة الجيش الروسي طرح أسئلة مماثلة على الرغم من أنّ الانتشار الدولي المحدود لموسكو والقيود المترتّبة على قدرتها على نشر قواتها تعطي معادلة مختلفة.
خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، كان وصول الاتحاد السوفيتي إلى البحر الأبيض المتوسط عبر مضيق البوسفور الذي تسيطر عليه تركيا التي هي بالطبع عضو في حلف شمال الأطلسي مسألة رئيسية.
هل تصبح السفن الحربية الروسية التي تعمل حالياً في البحر الأبيض المتوسط محاصرةً هناك؟
ماذا عن وجود روسيا المتواضع في منشأة طرطوس البحرية في سوريا؟
في حال وقوع أي صراع خطير، هل ستستطيع روسيا الاستمرار في بعث شحنات الأسلحة إلى سوريا؟
تلعب هذه التقارير دوراً في رسم اللهجة العامة للعلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا ووجهة هذه العلاقة. وقد تفرض اللهجة المليئة بالمواجهة نفسها وتنتج المزيد من التغييرات الجوهرية.
رغم أن الاستراتيجية العسكرية الوطنية الأمريكية تعترف بجهود موسكو في مكافحة المخدرات والإرهاب، تؤكّد بأنّ روسيا «لا تحترم سيادة جيرانها» و«هي مستعدّة لاستخدام القوة لتحقيق أهدافها».
(التعليق الأخير من الجيش الامريكي غريب بعض الشيء لأنّ القيادة السياسية الأمريكية تعتمد الطريقة نفسها «لتحقيق أهدافها».)
مما لا يثير الدهشة، لاحظت موسكو هذا التعليق الأخير والإشارة إلى خطر صراع ”متزايد“. في الواقع، أعرب المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف فوراً عن ”أسفه“ إزاء «لهجة المواجهة الخالية من أي حياد تجاه بلادنا» السائدة في التقرير وقال إن روسيا بصدد مراجعة إستراتيجية الأمن الوطني الخاصة بها، مضيفاً أنّ «جميع التهديدات للأمن القومي تُؤخذ بعين الاعتبار ويتمّ التدقيق فيها كما يتمّ إعداد تدابير مضادة».
في اليوم التالي، بعد يوم واحد على إصدار البنتاغون للاستراتيجية العسكرية القومية، عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعاً لمجلس الأمن في بلاده وكرّر رسالة بيسكوف (من دون ربطها بالولايات المتحدة).
وقال: «يجب أن نجري تحليلاً سريعاً لجميع التحديات والمخاطر التي قد نواجهها سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو معلوماتية أو غيرها. وبناء على هذا التحليل، علينا إجراء تغييرات في استراتيجية أمننا الوطني». وهذه العملية كفيلة بتحريك البيروقراطية العسكرية والأمنية الروسية باتجاه خطة للطوارئ في حال وقوع صراع تماماً كما تفعل الولايات المتحدة في التقرير.
كذلك، بما أنّ الولايات المتحدة وروسيا تعتبران أنّ احتمال صراع مباشر يتزايد، حتى ولو كان لا يزال مستبعدا جدّا، تفرض الدولتان هذا السياق الجديد على العلاقات القائمة بينهما في جميع أنحاء العالم، وتحتدم المنافسة بينهما على النفوذ.
جهود روسيا لاستمالة مصر، مثلا، تحمل معنى مختلفاً في البيت الأبيض والكرملين في حال ”ازدياد“ خطر نشوب صراع بين الولايات المتحدة وروسيا. وكذلك الأمر بالنسبة لاتفاق النفاذ البحري الجديد الذي وقعته روسيا مع قبرص. وبالتالي، تكتسب صفقات بيع الأسلحة الروسية إلى إيران وسعي الولايات المتحدة وراء الاتفاق النووي نكهة إضافية.
مع الوقت، قد تدفع هذه الدينامية واشنطن للضغط على شركائها في الشرق الأوسط لاختيار طرف من الطرفين عن طريق الحد من تعاونهم مع موسكو. (بما أنّ روسيا هي الحلقة الأضعف ولديها نفوذ محدود نسبيا، لا يفيدها هذا النهج كثيراً، وعلى الأرجح ستتابع محاولاتها في استغلال علاقات محبطة مع أمريكا لتغذية حكومات فردية).
أمّا الولايات المتحدة، فموقفها سيكون أقوى في عدم تشجيع الحكومات التي تعتمد على حمايتها على التعامل مع روسيا. تشمل هذه الحكومات على سبيل المثال البحرين والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة. وبالتالي، إذا بدَت الولايات المتحدة أقل رغبة في ممارسة نفوذها، سيكون شركاؤها أقلّ عرضة للخضوع لمثل هذه الضغوط.
وبالعكس، بينما يرى المخططون العسكريون الأمريكيون خطر صراع متزايد مع روسيا، سيضغطون على الحكومة الأميركية للتركيز أكثر على علاقات التحالف القائمة والشراكات في مختلف أنحاء العالم. هنا، ستجد الحكومات التي تستضيف قواعد عسكرية كبيرة أن لديها نفوذاً جديداً في التعامل مع واشنطن.
في الشرق الأوسط، ينطبق هذا بصفة خاصة على البلدان ذات القواعد الأمريكية البحرية والجوية التي ستكون ضرورية لاعتراض القوات الروسية في أي صراع (وكذلك دول الخليج العربية)، علماً أنّ هذا الاحتمال لا يزال مستبعداً في الوقت الحاضر.
خلال الحرب الباردة، قلّلت هذه الدينامية من تدقيق الولايات المتحدة الرسمي بشكل عام في الممارسات المحلية لشركائها، وقد أثار تنديد كل من الرئيس باراك أوباما والرئيس السابق جورج دبليو بوش.
لعلّ الغريب هو أنّ البيئة التي ترى فيها واشنطن وموسكو إمكانية لتزايد الصراع بينهما الذي يعتبرانه حتى الآن مستبعداً قد تكون أخطر مما يعتقد كثيرون. فهي تشجع التنافس المتزايد (لخلق التوازن الأمثل للقوى قبل أي مواجهة محتملة) مع التشبث بفكرة أنّ صراعاً فعلياً مستبعد جداً (وبالتالي تقليل حوافز ضبط النفس لتجنب مخاطر لا داعي لها).
من هذا المنظور، تجدر الإشارة إلى أن منطقة الشرق الأوسط متقلّبة بما فيه الكفاية نتيجة التوترات داخل دول المنطقة وبينها. وقد تهدّد إعادة إثارة المنافسة بين القوى الكبرى السلام والاستقرار أكثر بعد.
لحسن الحظّ، لا يزال صراع بين الولايات المتحدة وروسيا مستبعدا. ولسوء الحظ، فهو أقرب إلى الحصول بالمقارنة على ما كان عليه قبل سنة أو خمس سنوات أو عشر سنوات. وفي غياب انفراج دبلوماسي غير متوقع، ستزداد الأمور سوءاً العام المقبل.
نقلا عن المونيتور