أين ما ذهبنا إلى منتدى فكري أو مناسبة اجتماعية إلا وكان سؤال الجالس بجاني أو من كان قريباً: وين رايحين يا دكتور؟ هل هناك ما تبشر به أو وما يبعث على الاطمئنان؟ فالحالة لم تعد قابلة للتحمل والواحد بدو يطق!! إذ ليس في الأفق غير السواد؛ حياتنا كلها يأس وضياع!! أولادنا فلذات أكبادنا يترنحون حولنا؛ فواقعهم غامض، ومستقبلهم مجهول! هل عندكم من شيء يبل الصدى فتخرجوه لنا، كي نستعيد معه البسمة والأمل، ويجعلنا نشعر أن هناك في غزة - فعلاً - ما يستحق الحياة؟! وهل؟ وماذا؟ وكيف؟ وإلى متى؟!!
أسئلة لا تنتهي طوال الجلسة، حتى وأنت تغادر المجلس أو اللقاء تلاحقك بعضها! وكلها ذات نكهة سياسية، وتحمل مضامينها معاني استفزازية، تجعل من يتعاطى معها يشعر بالضجر والاشمئزاز.. حقاً؛ لقد وصلنا إلى الحالة التي لا نتوقع بعدها إلا الانفجار.. للأسف، المناخ السياسي مثقل بدخان أباطرة السياسة ورائحة العفن التي تفوح من كل تصريحاتهم.. ضاع الوطن، وتاه الشعب، وضللنا الطريق إلى فلسطين، واختلت بوصلة النجاة، وانعدمت الرؤية، فلم يعد الأقصى هو المنارة والسبيل.
خذلنا السياسيون؛ قيادات وأحزاب، فكل ما في جعبتهم تخريفات وأضاليل، وساقوا لنا من الأوهام ما جعلنا نُصدِّق أنهم على الأخذ بأيدينا - وقضيتنا - قادرون.
اليوم نكتشف أن الجميع أقعدونا على خازوق طال بتمدده فينا "نغانيش" العقول، وكل ما اختلط بعظم.
آه يا وطن.. وآه يا شعب، كلهم تآمروا عليك، وسلبوا أرضك وكرامتك، وانتهكوا عرين حريتك وحرماتك، وأذلوا ركائز وطنيتك، وكسروا شوكة هيبتك.
فالشباب في قطاع غزة - اليوم - حالهم يبعث على الألم ويدعو للأسى، حيث تحول هؤلاء الشباب الطامحون بفعل ما اقترفه السياسيون من خطايا وأخطاء إلى أمواتٍ غير أحياء.. نعم؛ ربما وجد البعض منهم ضالته في الالتحاق بمشروع الجهاد والمقاومة، وبذلك اتخذ سبيله في البحر سرباً، واطمأن على دنياه وآخرته، وهناك الآلاف منهم حائر يتحرك على غير هدى ولا كتاب منير، كما أن من بينهم من يتحرق بانتظار فرصة ركوب "قوارب الموت" أملاً في الحياة، بعيداً عن الأهل والوطن!!
وهناك بالطبع من يركض مراوحاً في المكان، ويتطلع عبر فضاء الإنترنت بحثاً عن ضالته، فلعل معلمة في الوكالة أو مع الحكومة في رام الله تقبل به "ظل موظفة ولا ظل حيطة"، وبذلك تستره وتأويه!!
إن هناك الكثير من الشباب داخل قطاع غزة يشعرون بأنهم عبء على الوطن؛ أي حمولة زائدة، ولا أمل لهم في وظيفة وبيت أو بفتاة بكرٍ "يلاعبها وتلاعبه".
إن البلد مرشحٌ لكل أنواع الكوارث الاجتماعية والمجاعة الصامتة، وحتى المواجهات المسلحة بين أبناء الوطن الواحد، والدين الواحد هي سيناريو لا يمكن تغييبه.. ففي تقديرنا لطبيعة الموقف في قطاع غزة، فإن حدوث الانفجار والمواجهة مع الاحتلال هي الأخرى ضمن التوقعات القائمة ومن الخطأ إغفالها، حيث إن القطاع في النهاية هو برميل بارود ومرجل يغلي، ولا يظهر بأن هناك "صمامات أمان" كافية تمنع حتى اللحظة وقوع الكارثة.
إن الرئيس أبو مازن والحكومة في رام الله وإخواننا القائمين على الوضع في قطاع غزة كلهم يعملون بمنطق "دعوها فإنها مأمورة"، أي دع الأمور تجري في أعنتها بقوة الدفع الذاتي، فكل شيء مقدر ومكتوب، ولا تُشغل بالك، ونم قرير العنين هانيها، فأنت الطاعم الكاسي..!!
بهذه الاتكالية يمضي تفكير البعض، وتتعطل فيه طاقة الفعل والعمل، ولا يكلف نفسه وسعها!!
نعم؛ قد تظهر تحركات سياسية وتناقلات للكرة باتجاه المرمى، ولكن الإشكالية أن كل اللعب يتمّ في منتصف الملعب، وليس هناك ما يبشر بأن أحدهم معنيٌّ بتسجيل هدف، وإسعاد الجمهور.
أتعبتنا السياسة، وخيبة السياسيين، وتنطعات القادة والزعماء، وأمنياتهم التي تبدو كأحلام العصافير أو من ضلوا السبيل.
من يأخذ بأيدينا؛ فغزة - حقاً - متعبة، أنهكها الإعياء، وهي عاتبة على الجميع؛ على قادتها وشعوب أمتها، وعلى المجتمع الدولي وكل ما في هذا العالم من كيانات إنسانية.. غزة "دمعةُ العين الغالية" التي أوجعنا عتابها، وألم الحسرة في وجوه أهلها، غزة حاملة المشروع الوطني والشوكة في خاصرة الاحتلال، أيعقل أن نتركها تنزف ويضام أهلها؟!
لم أسمع في حياتي هذا القدر من التنهيدات ومظاهر الشكوى الحزينة على ألسنة الكثيرين من أبناء هذا الوطن، حيث الكل يسأل بوجع واستنكار: إلى أين تأخذوننا يا من أنتم بأيديكم مقود السفينة من فتح وحماس؟! لقد أفقرتم بسياساتكم مستور الحال، وجرحتم حياء الكريم، ولم ترحموا عزيز قومٍ ذلَّ!!
الشارع - اليوم - يستصرخنا جميعاً؛ فتح وحماس، وعلى وجه الخصوص إخواننا في قيادة الحركة في قطاع غزة: ما الذي تريدوه منَّا بعدما أضحينا - اليوم - عناوين للمسغبة وضيق ذات اليد؟ صبرنا معكم ووقفنا إلى جانبكم، وصوتنا لكم، وتحملنا الكثير من أجلكم، وقبلنا كل ما لحق بنا من قتل ودمار فداءً للمقاومة، واحتراماً لدماء الشهداء.. صبرنا معكم، وصابرنا ورابطنا على كل الثغور؛ لنُمرِّغ إلى جانبكم أنف المحتل الغاصب، ونسجل وقفة عزة للوطن السليب.. ماذا أيها الكرام، هل بعد كل هذا تكون عاقبة أمرنا خسرى؟!
إننا نقدر أنكم تحاولون المستحيل، وتبذلون الجهد لإخراجنا من هذه الورطة التي ألمت بنا، وأن هناك مكر الليل والنهار في الداخل والخارج لكسر شوكة عزتنا، وإجهاض رماح مقاومتنا، ولكن السياسة تحتاج إلى حكمة ومرونة وسرعة اقتناص للحظات المواتية، وليس التعويل على المناكفات والردح السياسي، وتسجيل نقاط خارج مرمى الخصم.
وبنفس القدر لنا عتبٌ على إخواننا في حركة فتح، إذ ليس من الذكاء والفطنة السياسية أن تستمر القطيعة والانقسام ولا تحركون ساكناً للضغط على الرئيس أبو مازن ومواجهته بالقول: كفاية!! فالانقسام أضاع القضية، والوقت لا يجري لصالح أحد، ولا بدَّ من حكومة قوية تفي بالتزامات ما توافقنا عليه وطنياً أو تسليم الإطار القيادي المؤقت صلاحيات اتخاذ القرار المناسب فيما يتعلق بالانتخابات، ولا بأس أن تكون هي البداية، ونتائجها ترسم معالم الطريق للشراكة السياسية، وشكل المجلس التشريعي القادم، وما يمكن أن نتوافق عليه من إصلاحات، لإعادة بناء وهيكلة النظام السياسي الفلسطيني.
حكومة الحمد الله: العجز وسياسة طهي الحصى
إن لنا عتباً كبيراً على د. رامي الحمد الله؛ رئيس الوزراء، فقد أضاع قرابة العام ولم يفعل شيئاً ملموساً في الملفات المكلف بها، وظل التبرير الذي شكَّل لحن المرحلة هو: تضيقات حركة حماس، وعدم التمكين لوزرائه من القيام بمهامهم في قطاع غزة. السؤال الذي يطرح نفسه: هل قام هؤلاء الوزراء بالتواصل مع أجنحة وزاراتهم في قطاع غزة، وهل أرسلوا لهم أية إشارات توحي بأننا كيان واحد، وتابعوا معهم مراجعة الخطط والميزانيات؟
لقد حاول الكثير من الوكلاء في غزة الاتصال بالوزراء في رام الله، ولكن لقد أسمعت لو ناديت حياً؛ لا جواب، ولا رغبة حتى في التقاط أنفاسٍ قادمة من غزة!!
ليس هناك في جعبتي إساءة للدكتور الحمد الله؛ فقد عرفناه واحترمناه على المستوى الشخصي، أما الوطن المنقسم على نفسه، وأهله القابضين على الجمر ونزف المعاناة، وشباب قطاع غزة الذين ضاع مستقبلهم، فلهم رأيهم وغيظ قلوبهم، وهم في المشهد العام لا يرون في عمل حكومة التوافق إلا شهوراً تجاوزت العام، وكانت محصلة المنتوج أضغاث أحلام.
جميل أن يتحدث د. الحمد الله عن أفكار وحلول لمشاكل قطاع غزة، ولكن نريد أن نرى طحناً، ونشاهد غزة ورشة عمل تتحرك فيها عجلة الإعمار وعودة البناء، كما نتطلع لرؤية كفاءات تتقدم الصفوف وتعمل في الوزارات، وليس أبناء الذوات وأصحاب الولاءات، نريد من يجهد ويتحرق على الإنجاز وله علامة وطنية. حقيقة، في كل مرة تتشكل فيها حكومة، تكون الخيارات للنطيحة والمتردية وما لفظ السبع، أي أولئك الذين يُسخِّرون الموقع للكسب والابتزاز من رجال الأعمار وتُجار الوطنية أو من أولئك الذي يرتحلون بالبخور والحنجل لإرضاء أصحاب القرار.
أرجو أن يتم توسيع الحكومة بضخ وزراء لها من قطاع غزة، من كفاءات الطبقة الكادحة؛ من المستضعفين والمحرومين، وأن يكون ذلك بتوافق مع حماس وكافة القوى الوطنية في القطاع، وبالعودة إلى ما تمَّ الاتفاق عليه في مخيم الشاطئ في 23 أبريل 2014م.
ارحموا هذا الوطن، ولا تُحمِّلوه أكثر من طاقته، فالتاريخ لن يرحم كل من أساء إليه، فالمجد هو تاجٌ لكل من رفع هامته، وضحى من أجله.
للدكتور رامي الحمد الله.. عليك أن تعقد العزم للعمل مع إخوانك في حركة حماس، من أجل كرامة شعبك ومكانة قضيته، عليك أن تأتي بالمواقف والحلول لتجد أبواب غزة مشرعة بالتقدير والترحاب. الناس في قطاع غزة – يا صاحب المعالي - لم يعد يطربها أصحاب الحناجر وشعراء الكلام، الجائع لا ينتظر وصلة من الغناء، وليس بحاجة إلى مشاهدة أعمال بيكاسو وغيره من المشاهير، حتى المسلسلات الفنية لم تعد لها فسحة من أوقاتنا.. إن الناس في قطاع غزة تريد من يقترب منها، ومن يقدم لها يد العون، ويواسيها بما يعيد لها كرامتها المهدورة، والتي أذهبها الفقر وضيق ذات اليد.
يا صاحب المعالي.. قطاع غزة بانتظارك دائماً بالشوق والترحاب، ولكن مفتاح قلوب أهلها (وجئتك من سبأ بنبيءٍ يقين).
ختاماً: سؤال؛ بأيِّ حالٍ جئت يا عيدُ؟
منذ أن ولدتني أمي في ديسمبر 1950م، وحتى تفتحت عيناي على العيد، وهذا القول للمتنبي يصدح في الآذان: "عيدٌ بأي حالٍ عدت يا عيد، *** بما مضى أم بأمر فيك تجديد".
هذا البيت عشته عمري، ومن الواضح أنه يرحل إلى الأحفاد، وأحفاد الأحفاد؛ لغياب البديل واستشراء حالة (غلبت علينا شقوتنا).
يا أهل قطاع غزة؛ برغم المآسي والجراح، كل عام وأنتم بخير، ومنكم لأهلنا في الضفة الغربية أجمل التهاني والتبريكات، وتمنياتنا للجميع؛ للوطن والأمة، وللمرابطين في الثغور من كتائب الجهاد والمقاومة بالتوفيق والسداد، سائلين المولى (عزَّ وجلَّ) أن يعيده علينا باليمن والبركات .