لم يكن يوليو إلا شهرًا جميلًا ستُطْفئ في إحدى أمسياته شمعة الميلاد العشرين، لتبدأ أمنياتٌ جديدة تُدون في حضرة العام الجديد.
إنجازاتٌ كثيرة شهدتها غزة من اللحظة الأولى لبناء قرية الفنون والحرف في يوليو 1998، ولكن بين الميلاد والأمنيات، ضاعت الشموع، وطارت آخر حماماتٍ كانت تنتظر أجواء الاحتفال، وتلبَّدت سماء غزة بصواريخ جديدة.
سبعة صواريخ متواصلة، أُطلقت مساء السبت 14/7 على مبنى دار الكتب الوطنية المجاور للقرية، لتهز كل أرجاء غزة، وتردي قرية الفنون والحرف بكل ذكرياتها ومقتنياتها وزواياها، شهيدةً تحت أنقاض الرماد.
لم تكن قرية الفنون والحرف مجرد مكانٍ تُعرض فيه لوحات الفنانين، بل كانت صرحًا ومَعْلمًا حضاريًا وسياحيًا بامتياز، منذ نشأتها الأولى بأمر من الرئيس الراحل ياسر عرفات، وتمويل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، لتكون القرية حضنًا أساسيًا للتراث الفلسطيني، ومكانًا وحيدًا يعرض فيه الفنانين لوحاتهم بجانب المشغولات اليدوية.
وفي هذا السياق، قالت مديرة قرية الفنون والحرف الأستاذة نهاد شقليه، إن "القرية بطبيعتها لم تكن بناءً عاديًا، حيث أنها تكونت من أقسام عديدة منفصلة لا يتجاوز طول القسم الواحد عن خمسة أمتار، بدءًا من قسم النحاسيات وقسم الخشبيات في الجهة اليمنى، إلى قسم البسط والتطريز في الجهة اليسرى، ويتوسطها صالة كبيرة لإقامة المعارض، والتي تميَّزت بأقواسها وأقبيتها، وسقفها المصنوع من الطوب الأحمر الأصيل، والذي بات اليوم معرضًا للانهيار في أي لحظة بعد تعرضها لصواريخ الاحتلال".
وأوضحت شقليه، لمراسلة وكالة "خبر"، أن هذا القصف كان متعمدًا، فالاحتلال لم يترك أي مكانٍ يحمل التراث الفلسطيني، ويثبت حق العودة للأراضي الفلسطينية، إلا وتعمَّد تدميره، ظنًا منه أنه بهذه الطريقة قد يوهن عزيمة الشباب الفلسطيني.
وناشدت شقليه، بضرورة العمل على إعادة بناء القرية، وتجميع المقتنيات التراثية التي اندثرت تحت الركام، لضمان عدم فقدان أي دليل فلسطيني، ولتبقى هذه القرية في مواجهة الأكاذيب التاريخية التي يدَّعيها الاحتلال في سرقته للتراث الفلسطيني الأصيل.
من جهته، قال صاحب بيت نحاس داخل القرية، أبو حمزة الزعيم: إن "هذا البيت كان تشجيعًا من الأجانب أولًا، الذين اعتادوا أن يرتادوا هذا البيت، ويتعرفوا على كل النحاسيات وتاريخها، ويشترون من بعضها أحيانًا، كذكرى أصيلة من التراث الفلسطيني".
وأشار إلى أنه بدأ العمل في داخل البيت، يستقبل طلاب المدارس، ويعلمهم بعض الحرف الخاصة بالنحاس، ليتمكنوا من معرفة هذا التراث العريق.
وتابع أبو حمزة بحزنٍ وأسى خلال وصف شعوره للحظة تلقي خبر تدمير القرية، خاتماً حديثه بعبارة: " ذكريات 21 سنة صار تحت الركام".
من جانبه، بيَّن الفنان التشكيلي شريف سرحان، أنه رغم التدمير الذي لحق بالقرية، إلا أن الفنانين أصرَّوا في اليوم التالي للتدمير، على إقامة معرضًا فنيًا على ركام القرية، ليوصلوا رسالتهم، أن الفن الفلسطيني سيبقى حيًا بكل عزائمهم وطاقتهم المحشوذة.
وأكد سرحان على أن الفنانين يتكاتفون سويًا للاستمرار في عرض لوحاتهم داخل القرية، إلى أن يعاد بناؤها من جديد.
يذكر أن الدمار لم يقتصر على قرية الفنون والحرف فحسب، بل لحق كل المباني المجاورة أضرارًا كبيرة بما فيها، مبنى وزارة العدل، ووزارة الأوقاف وديوان الموظفين، فضلًا عن الأضرار في المباني التعليمية التابعة لجامعة الأزهر.