أعداء النجاح

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

يحدث أحيانا أنَّ موظفا نشيطا، أو مهندسا بارعا، يقوم بعمله على أكمل وجه، لا يخطئ تقريباً، بل يتقدم باستمرار، ويحقق الإنجازات النوعية، ويحل المشاكل المستعصية.. وفجأة، على غير المتوقع، يُصدر رئيسه في العمل قراراً بنقله إلى دائرة أقل أهمية، أو ينفيه إلى أبعد محافظة ممكنة! 
سيظن هذا الموظف المتميز والمتفوق أنه أخطأ في مكان ما، أو قصّر في أداء مهمة معينة، أو أن أحد الواشين المتملقين كتب فيه تقريرا كيديا.. وفي الحقيقة، أن رئيسه اتخذ هذا القرار بنفسه، للأسباب التي كان يظن الموظف أنها سترقيه إلى درجة أعلى.. لأن رئيسه من النوع الكاره للنجاح.. أو بمعنى أدق كاره للناجحين.. فهذا المسؤول يظن أن النجاح والتميز والإبداع صفات خاصة به فقط، ولا يجوز لأحد أن يشاركه بها.. نرجسية معقدة، تجعل من صاحبها يتوهم بأنه محور الكون الوحيد. 
وعلى مستوى أعلى؛ في دول العالم الثالث، يحيط الرئيس نفسه بهالة من العظمة، ينصّب نفسه زعيما بلا منازع، فإذا برز أي شخص قيادي، وأنجز ما هو خير للبلد، وأحبه الشعب.. فإن أول ما يقوم به الزعيم، هو التخلص منه بأي طريقة؛ لأن البلد في نظر الزعيم هي ذاته المتورمة.
حدث هذا مع سقراط نفسه، في القصة التي كتبها رجاء النقاش، في "تأملات في الإنسان".
عاش في أثينا أبرز شخصيتين: سقراط، وقاضي أثينا.. سقراط كان أبو الحكمة والفلسفة، إنسان بسيط ومحبوب، بينما كان القاضي أغنى أغنياء أثينا.. كان سقراط يزداد شهرة ومجداً بحكمته.. والقاضي يصغر ويتلاشى رغم قصوره وعبيده وأمواله.. وكلما تقدم سقراط بحكمته، ونظرياته الفلسفية، اختفى القاضي، حتى صار صفراً، وشيئاً لا يُذكر.. إلى أن ضاق ذرعاً بسقراط، فطلب محاكمته.. وجّه له تهمة الخروج عن الدين، وإفساد عقول الشباب.. وفي الحقيقة أن ذنب سقراط الوحيد هو تفوقه على القاضي.. وفي المحكمة كان كلما أبدع سقراط في المرافعة، وبرع في الدفاع عن آرائه، وشرح نظرياته، ونال إعجاب الجمهور، زاد حنق القاضي عليه، وإصراره على حكم الإعدام.. لم يستوعب سقراط أسباب الحقد عليه.. بينما كان القاضي مدركاً تماماً لما يفعله.. ظن سقراط أن المعركة فكرية، وعليه أن يدلي بحكمته بكل بلاغة.. في حين كان القاضي قد حسم أمره، ولأسباب مختلفة.. وعندما أوشك سقراط على إقناع الجمهور، كانت تلك بالضبط لحظة النطق بحكم الإعدام. 
وتتكرر مأساة "الامتياز" و"التفوق" مرة أخرى مع "جان دارك"؛ الفتاة الفرنسية الصغيرة، التي تفوقت بشجاعتها على الرجال، وتلك خطيئة لا تغتفر في مجتمعات الذكور.. قادت "جان دارك" الجيش الفرنسي إلى انتصارات متتالية مهمة، ولكن نتيجة الحرب انتهت باتفاقية بين فرنسا وإنجلترا.. وكانت "جان دارك" ضحية هذا الوفاق.. إذ تنبه الملك شارل السابع، ومعه ثلة من الذكور المنتصرين إلى ما صارت عليه "جان دارك"، فساقوها إلى المحاكمة، لتعدم حرقاً، بتهمة الزندقة.. كان ذنبها أنها أخلصت لبلادها، وأظهرت شجاعة وحكمة غير عادية، بينما كان القضاة يفكرون بصورتهم التي هزتها فتاة ريفية بسيطة، لم تتجاوز الـ 19 عاماً..  
الحالات التي سقناها كأمثلة، تعاملت مع الأمور بحسن نية، لم يتوقعوا وجود أعداء للنجاح، يتربصون بهم، وينتظرون منهم أي خطأ، وإذا طال انتظارهم يختلقون لهم أي تهمة.. 
هل أعداء النجاح هم فقط الرؤساء والقادة العسكريون والوزراء ومدراء العمل؟ بالتأكيد لا.. أعداء النجاح في كل مكان، ومن كل الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية.. وفي كل المستويات.
النجاح الكبير يعني الابتكار، والتجديد، واجتراح الحلول الخلاقة، والخروج عن المألوف، والتميز، والمغامرة.. والناس عادة تميل للمحافظة على الموروث، تحب البقاء في دائرة السكون، حيث الاطمئنان والراحة والتعود على المألوف.. لذلك تنظر بتوجس وريبة لكل ناجح، وربما تحاربه في البداية.
النجاح ليس فقط في الهندسة والطب والاختراعات، أو في السلم الوظيفي.. ولا يعني دائماً تحقيق أشياء خارقة؛ قد يكون النجاح في موهبة رياضية أو فنية، أو في أبسط الأشياء: الوصول للسلام الداخلي، الانسجام مع النفس، إنجاز أهداف بسيطة، نيل محبة الناس وثقتهم، اهتمام الشخص بمظهره وأناقته، أو بالحضور والكاريزما، أو بتحقيق إنجازات صغيرة وعادية.. وأعداء النجاح ليسوا بالضرورة من نفس المجال.. الطبيب قد يتمنى الفشل لإعلامي مشهور، وربة البيت قد تحسد ممثلة عالمية، والمزارع قد يغار من نجار بارع.. فيبدؤون بالتفتيش عن أخطائهم، ويفرحون لأي سقطة منهم. 
عموماً، الناس العاديون يحبون الناجحين، ويحاولون تقليدهم.. أما أعداء النجاح فغالباً هم الفاشلون، الذين يواظبون على انتقاد الآخرين، ويفتشون عن عيوبهم، ولا يرون في نجاحاتهم إلا صورة خيباتهم وفشلهم.. الفاشل يستمتع بفشل الآخرين، ويريحه منظر ضعفهم، ليعزي نفسه، يتهمهم ليخفي فشله وعجزه عن تطوير أي صفة إيجابية فيه. 
وأحياناً يكون الشخص هو عدو نفسه، مثلاً، قد يخفق رياضي موهوب في تحقيق أي نجاح يرضيه، وهذا طبيعي ومتوقع، لكن المشكلة تبدأ حين تتملك هذا الشخص ما تسمى عقدة الاضطهاد، فيبدأ بتبرير إخفاقه، موعزاً السبب للآخرين، كأن يعتقد أن والده هو السبب، لأنه يقيده، ولا يشجعه.. بينما سبب فشله الحقيقي هو عدم المواظبة على التدريب، واستسلامه لليأس، وهزيمته عند أول إخفاق، وعدم مواجهته لنفسه، فيتحول إلى شخص متذمر كثير الشكوى، يعدد عشرات الأسباب لفشله، ولا يرى في نفسه سببا واحدا! ومع الوقت يبدأ بالاستمتاع بعقدة الاضطهاد، ويظل بحاجة لوالده، لأنه الشمّاعة التي علق عليها أخطاءه.. وهذا شعور مريح.. إذ يجعل من فشله قصيدة جميلة، يتغنى بها مع نفسه ومع الآخرين.. 
ومثل ذلك الرياضي ما لا حصر له من الأمثلة، من يعيشون عقدة الاضطهاد، ويعتقدون أن الدنيا ظلمتهم، وأن البلد لا يستوعب مواهبهم، والمجتمع تافه، وأن المسؤولين مقصرون، أو لأن حبيبته هجرته، أو لأن معلمه يكرهه، والآخرين يغارون منه.. يلقون باللوم على الظروف وقلة الحظ، في نظرهم الجميع مخطئ بحقهم.. أما هم فمظلومون وأبرياء!
أحيانا يصبح الفشل لذيذاً، ومريحاً، ما عليك إلا النوم، وإلقاء المسؤولية على الآخرين.. هؤلاء هم أعداء أنفسهم.