الصحافة الشقية

thumbgen (20).jpg
حجم الخط

 

بدت على صديقي الدهشة عندما رآني أقلب صحيفة ورقية، لم يحجب ابتسامة ساخرة ترجمتها كلمات مقتضبة وضعتني في خانة تجاوزها الزمن بسنوات، والحقيقة أن الصحف الورقية لم تعد صديقة أحرص على الإلتقاء بها يومياً كما كان الحال عليه في الماضي، واكتفيت بلقاء اسبوعي شجعني عليه شاب يجلس أمام كومة من الصحف الورقية أمام المسجد يوم الجمعة ليبيع ما تيسر منها على المصلين، كلما رأيته عدت بالذاكرة إلى سنوات طويلة مضت حيث موزعو الصحف يجوبون شوارع القاهرة على دراجاتهم الهوائية بعمل اشبه ما يكون بالأكروبات، اثناء قيادة الدراجة الهوائية يقوم بطي الصحيفة ليجعلها في شكلها الاسطواني المضغوط ويحكمها بخيط قصير قبل أن يقذف بها إلى بلكونة المشتركين بحرفية تثير الدهشة، قلما يخطيء هدفه حتى وإن كانوا من قاطني الأدوار العليا، ويقوم مع بداية كل شهر بتحصيل ثمن الصحف، الغريب أن موزعي الصحف في تلك الأونة الذين يعتاشون على القليل مما يدره عليهم هذا العمل لم يتوقفوا عن ايصال الصحف إلى أصحابها يومياً حتى وإن لم يتمكن من تحصيل ثمنها بسب سفر قاطني المنازل، لم يكن بينه وبين المواطنين عقوداً تحفظ له حقوقه، كأنه يرى فيما يقوم به عملاً تثقيفياً لا يرتبط بشقه المادي.

ما زلت أذكر السعادة التي انتابتني في اليوم الذي نشرت فيه صحيفة القدس مقالي الأول منتصف الثمانينات، رحت أقلب صفحات الجريدة مراراً لأعود في كل مرة إلى الركن الذي يتواجد فيه المقال لأقرأه من جديد، كأنما يبقى المقال لقيطاً إلى أن يجد مكاناً له على صفحات الجريدة، لم أعرف يومها أن مكان المقال في الصحيفة له دلالاته، أكثرهم أهمية ذلك الذي يتموضع في الصفحة الأخيرة للصحيفة، تغيرت الامور بفعل تقنية الاتصالات وما فعلته وسائل التواصل الاجتماعي التي اقتحمت حياتنا بتفاصيلها الدقيقة، ولم تعد معها الصحف الورقية تحظى بشيء من الأهمية واضطرت العديد منها ذات التاريخ المجيد أن تتوقف عن الصدور، والمؤكد أن ما تبقى منها على قيد الحياة ينتظر أن يلفظ انفاسه الأخيره، وعما قريب ستختفي الصحف الورقية من عالمنا وتكون نسياً منسياً، المهم أن التقنية الرقمية أصابت الصحف الورقية في مقتل ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل من الواضح أنها أحدثت زلزالاً في المنظومة الاعلامية سيصل بتداعياته إلى العديد من الوسائل التي احتكرت لسنوات هيمنتها على الاعلام.

والأهم أيضاً أنه مع هذا الاجتياح الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي بات من الضرورة أن يتكيف التعبير مع متطلباتها، حيث تدفق الأخبار المتسارع لا يسمح بالغوص في منحنياتها، فالمقال والتقرير والتحليل باتت من المواد المعسرة للهضم تحاول الغالبية تجنب تناولها، يكفي الخبر أن يتموضع في تغريدة لا يصلها مقص الرقيب وتطرق أبواب ملايين البشر قبل أن يرتد اليهم طرفهم، وطفا على السطح معها مصطلح "المواطن الاعلامي" حيث لم يعد الاعلام حكراً على فئة معينة اكتسبت صفتها بفعل دراسة أكاديمية أو ممارسة امتدت لسنوات، بل بات المواطن بمقدوره اقتحام هذا المجال الواسع عبر هاتفه النقال ويسجل حضوراً يعجز عن تحقيقه من يمتلكون ناصية الكلمة ومن يعتقدون أن المعلومة حكر عليهم، بغض النظر عما أحدثته التقنية الرقمية من ثورة اجتاحت بأدواتها حياتنا اليومية وما لها وما عليها، فمن المؤكد أنها فرضت ذاتها وأجبرت الجميع على التعاطي معها والالتزام بمتطلباتها.

لم تعد الصحافة الرسمية المملوكة للدولة قادرة على توجيه الرأي العام كما كانت تفعل في الماضي، ولم تعد الصحافة الحرة تقلق مضجع الرؤساء والقادة بقدر ما باتت التغريدة تفعل ذلك، وليس بالأمر الهين ملاحقتها ومحاصرة تداعياتها، ورغم السطوة التي تحاول بها الأنظمة تكبيلها إلا أنها تتمتع بقدرة عالية على الافلات من قيود السلطات واقتناص ما طاب لها من الاعجاب وخلافه من متعلقاتها، وإن كانت الصحافة قد انتزعت في السابق مصطلح صاحبة الجلالة فإن التغريدة تحيلها إلى الصحافة الشقية كونها تمتلك قدرة فائقة على شق عصا الطاعة.