الحلال والحرام في قضية فلسطين

466081534185479.jpg
حجم الخط

 

قبل أسابيع طويلة، كتبت ونشرت مقالا بعنوان «صفقة القرن.. البقية في حياتكم»، وكان نشر المقال متواقتا مع قدوم مبعوثي ترامب وموفديه كوشنير وغرينبلات إلى المنطقة، وجولتهما في دولة الاحتلال وعواصم عربية، بينها القاهرة والرياض وعمان، وقد صار معلنا الآن أن العواصم العربية المعنية سحبت يدها من الصفقة الملوثة، وهو ما توقعناه مبكرا جدا، وكتبنا قبل أكثر من سنة عن «خيبة القرن» التي ستنتهي إليها صفقة ترامب المكتوبة بخط يد نتنياهو.

وما من شك ولا جدال، في أن الشعب الفلسطيني بصموده الأسطوري، هو صاحب الفضل الأول في إسقاط الصفقة، وتحويلها إلى جثة هامدة، لا تكاد تقوى على حراك جديد، ولا تجرؤ الإدارة الأمريكية ذاتها على إعادة طرحها، بعد أن فاحت روائحها الكريهة، وتبينت لعنتها، وبصورة دفعت الأطراف العربية المعنية إلى التنصل منها، خاصة بعد أن قرر ترامب نقل سفارة واشنطن إلى القدس، واعتبار القدس المحتلة بكاملها عاصمة موحدة وأبدية لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وهو ما وضع النظم العربية المعنية في حرج قاتل، وعلى نحو خشيت معه من مضاعفات الاتهام بخيانة القدس ومسجدها الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

وقد لا يعنى تراجع الصفقة الملعونة زوال الخطر، فدولة الاحتلال والإدارة الأمريكية المندمجة معها استراتيجيا، تواصلان عملية ممنهجة لتحطيم القضية الفلسطينية، وبإجراءات من جانب واحد، وعلى طريقة خطة التصفية العملية الجارية لنشاط وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بقطع التمويل الأمريكي عنها، والإعداد لإصدار قانون من الكونغرس الأمريكي، يحصر معنى «اللاجئين الفلسطينيين» في بضعة آلاف، ممن شردوا في نكبة 1948، وظلوا على قيد الحياة إلى الآن، وبدون مد التعريف كما هو مسلم به دوليا، إلى الأبناء والأحفاد، الذين صاروا نحو ستة ملايين الآن، تعترف وكالة (الأونروا) بأغلبهم، وتدرجهم في قاعدة بياناتها، ولا تستطيع واشنطن بالطبع، أن تحصل على اعتراف دولي بتعريفها الهزلي، فالطريق مسدود في الأمم المتحدة، والأغلبية الساحقة من الدول تؤيد عموما حق اللاجئين الفلسطينيين، ولا يزال القرار 194 قائما، وهو يطلب للاجئين حق التعويض أو العودة، وهو ما لا تبالي به إدارة ترامب، ولا امتداداتها في دولة الاحتلال، التي صادرت رسميا حق عودة أي لاجئ فلسطيني، وأصدرت قانون القومية أو قانون الأساس الإسرائيلي، الذي يصور كيان الاحتلال كدولة يهودية خالصة، ويقصر ما يسميه «حق العودة» إلى فلسطين المحتلة، على اليهود بصفة حصرية، ولا يعترف بأي حقوق قومية للفلسطينيين في وطنهم التاريخي، وكأنه لا يرى الفلسطينيين من أصله، وهم الآن أغلبية المقيمين على الأرض الفلسطينية بكاملها من النهر إلى البحر، وهم في طريقهم ليصبحوا الأغلبية السكانية الساحقة على مدى العقود القليلة المقبلة، حتى بافتراض عدم عودة أي لاجئ فلسطيني خارج الوطن إلى الديار الأصلية.

وقد لا تبدو الإجراءات الأمريكية الإسرائيلية ذات بال على المدى الطويل، فهي تعاند حقائق راسخة نامية على الأرض، وتتصور وهما، أنه بالوسع حجب نور الشمس بخيمة أصابع مرفوعة، بينما الصراع لايزال طويلا ممتدا، والشعب الفلسطيني لن يختفي، لمجرد أن واشنطن وتل أبيب لا تريدان رؤيته، بينما تطلع الشمس كل يوم على كفاح بطولي، وعلى مقاومة شعبية باسلة للشعب الفلسطيني، بالثبات على الأرض والحق، ورمي قوانين أمريكا وإسرائيل العبثية في أقرب سلة مهملات، بل تحويل ما أراده الأعداء من نقمة إلى نعمة، وعلى نحو ما حدث من يقظة مضافة للشعب الفلسطيني بعد قرار القدس، ويقظة الدروز الفلسطينيين إلى هويتهم العربية الأصيلة، بعد قانون «القومية» اليهودي، بعد أن ظلوا عبيدا في سلم خدم الكيان الإسرائيلي، يخدمون في جيشه، ويقتلون العرب في حروب توالت، ويعملون في «الموساد» الإسرائيلي على طريقة الجاسوس الشهير عزام عزام، وبعد صدمة قانون القومية الإسرائيلي، استيقظت فيهم عروبتهم مجددا، وعلى طريقة الشاعر الفلسطيني «الدرزي» سميح القاسم، وعلى نحو يراكم مكاسب جديدة للفلسطينيين، حتى من مضاعفات قانون «القومية» اليهودي العنصري المنحط، الكاشف لسوءة دولة الاحتلال ككيان فصل عنصري، و»أبارتايد» صريح بلا شبهة التباس ولا رتوش تستر، وهو تطور يضيف في الجوهر إلى وضوح الحركة القومية للشعب الفلسطيني، ويزيد من اندماج مكوناته في حركة نضالية واحدة، راحت تستهدي أكثر فأكثر بسبل المقاومة الشعبية السلمية، وخلق مشاهد تكشف وتفضح الطابع غير الأخلاقي لكيان الاغتصاب، وتحول قانون قوميته المفتعلة إلى قانون تمزيق لإسرائيل، على المديين المتوسط والبعيد.

فلم يقصر الشعب الفلسطيني أبدا، حتى إن خذلته النظم العربية، التي قد تكون فعلت خيرا بالتنصل من عار ما كان يسمى «صفقة القرن»، والعودة من جديد إلى خطوط ما يسمى المبادرة العربية للسلام، وإعادة تأكيد موقف رسمي عربي، يطالب بدولة فلسطينية مستقلة في غزة والضفة الغربية عاصمتها القدس الشرقية، وهو الهدف المعلن للقيادة الفلسطينية ذاتها، وإن كان تنازلا بشعا عن أصل حق الفلسطينيين في استعادة كامل أرضهم من النهر إلى البحر، وهذه قصة كفاح ممتدة إلى زمن طويل مقبل، ربما يطال هدفه على نحو ما في منتصف القرن الجارب الواحد والعشرين، أي بعد ثلاثة عقود من اليوم، نثق في مقدرة الشعب الفلسطيني الفذة على خوض معاركها بثقة واقتدار، حتى مع خذلان النظم العربية للكفاح الفلسطيني، وتخليها عن فعل ما يقتضيه أضعف الإيمان، فبوسع هؤلاء على الأقل، أن يكفوا أذاهم عن الشعب الفلسطيني، بوقف التطبيع الفاجر مع دولة العدو، وبوسع النظم العربية فائضة الثراء، أن تعوض قطع التمويل الأمريكي عن وكالة (الأونروا)، ولو بدفع عشر معشار ما دفعته لجماعات الإرهاب في حرب تحطيم سوريا، وإلا أصبح تحطيم وكالة «الأونروا» جريمة عربية قبل أن تكون جريمة أمريكية.

ومع إدراك الطبيعة الاستبدادية للنظم العربية القائمة، وعزلتها البديهية عن الحس الشعبي، وميلها بالخلقة إلى التهاون والتفريط في حقوق الأمة وشعبها الفلسطيني، فلا يصح أن نيأس من روح الشعب ولا من روح الله، ولا أن نكف عن مقاومة المخططات «الحرام» الجاري بعضها اليوم، والتي تقتبس من «صفقة القرن» روحها، بعد أن تبدد قوامها الأصلي، وتسعى إلى تزوير قضية الشعب الفلسطيني، وتصويرها كمجرد قضية معونات لا قضية حقوق، وإلى قضية تعاطف إنساني لا قضية تحرير وطني، وعلى نحو ما يجري من مناقشات ومفاوضات اليوم حول غزة، تصور فك حصار غزة كأنه الهدف الأعلى والوحيد، مقابل ما يسمى تهدئة أو هدنة طويلة الأجل مع دولة الاحتلال.

وهو كلام يبدو مغريا خادعا لأول وهلة، حتى لحركات فلسطينية، لا تتوقف طويلا عند السم المدسوس في العسل، وسعي ترامب ودولة الاحتلال إلى فصل غزة عن حركة الكفاح الفلسطيني، وكانت غزة دائما هي مسقط رأس حركات المقاومة الفلسطينية الكبرى، ومحاولات فصلها عن المجموع الفلسطيني، بدعوى إنقاذ أهلها من حصار كافر متصل لعشر سنوات حتى الآن، تنطوى على خلط للحق بالباطل، ومزج الحلال بالحرام الوطني والديني، فمن حق غزة أن يرفع الحصار عنها، وكل جهد لتفكيك الحصار مطلوب، حتى إن انطوى على مناورات تكتيك يتعامل مع ظروف اللحظة المعقدة، ولكن بدون تفريط في الجوهر، ولا التورط في عقد هدنة مستديمة مع دولة الاحتلال، ولا مقايضة الحق في الحياة بالحق في التحرير، ولا تشتيت مكونات الشعب الفلسطيني، فرفع الحصار عن غزة مهمة كفاحية، تماما كاستمرار دمج غزة في المجرى الواسع للكفاح الفلسطيني، ورفع الحصار يزيد في حيوية الشعب الفلسطيني، ويرفد حركته الجامعة بمدد لا غنى عنه، فقد أيقظ كفاح غزة كفاح الفلسطينيين في حيفا، تماما كما أمد حركة الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس بنفس جديد، وما من سبيل لإسقاط خديعة فصل غزة، سوى بتوحيد حركة طلائع الشعب الفلسطيني، وإنهاء انقسام غزة ورام الله، والاستجابة النهائية لخطة المصالحة المطروحة من القاهرة، فلا عاقل يقبل من الرئيس عباس أن يعاقب غزة وأهلها، وأن يدعي أنه يحارب مؤامرة فصل غزة في الوقت نفسه، ولا عاقل يقبل نزع سلاح المقاومة مقابل عودة الحكومة الفلسطينية إلى غزة، وهذه كلها مناورات مفضوحة الهوى، ولا تخدم أحدا سوى دولة الاحتلال، وسوى خطة واشنطن وتل أبيب لفصل غزة، بينما الفرصة قائمة لفعل العكس بالضبط، والجمع السلس بين تفكيك الحصار وتوحيد حركة الشعب الفلسطيني، والتخلص من خطايا «أوسلو» بالجملة، والإنهاء الفعلي لجرائم التنسيق الأمني مع إسرائيل في الضفة الغربية، فالممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني هو الشعب الفلسطيني نفسه، وليس حركة عباس ولا حركة حماس، فقد انتهت صراعات الفصائل إلى عدمية مطلقة وبائسة، وإلى تلويث الحركة الفلسطينية بالسلوك الحرام، والشعب الفلسطيني وحده يملك الحل، بانتخابات حرة تعيد بناء مؤسساته الحلال.

 

عن جريدة "القدس العربي" اللندنية