نظام السلطة العاجز

169831535103444.jpg
حجم الخط

 

صحيح أن السيد محمود عباس هو رأس السلطة الفلسطينية وقمة الهرم في نظامها السياسي والتنفيذي, لكن الصحيح أيضا هو أن هناك أركان لهذا النظام, جعلت منه مع مرور الوقت نظاما فاسدا من حيث تقديم المصالح الشخصية للأفراد, على المصالح الوطنية العامة, ومن حيث تسريب الأموال العامة, إلى مخارج بعيدة عن العيون, ومن حيث ضعف قوة القانون العام لصالح قوة الأجهزة الأمنية . 
وصحيح أيضا أن محاولة قراءة طبيعة نظام السلطة الحالي, لن تكون بمعزل لا عن نشأة السلطة ولا عن مسار تطورها, وكذلك ليس بمعزل عن هوية وطبيعة الأفراد الذين يشكلون أركانها حاليا . وحيث أن السلطة قد نشأت وتشكلت للمرة الأولى, بعد اتفاقيات أوسلو, بل كأداة لتنفيذها, حيث اشترطت إسرائيل إنشاءها, ولم تقبل أن تجعل من م ت ف وهي كانت قائدة الشعب الفلسطيني, بل وهي من وقع باسمها ياسر عرفات الاتفاقيات المذكورة, أن تكون هي السلطة, وربما لأن الشعب الفلسطيني وقيادته في ذلك الوقت, حبذت أو فضلت أن تحمل السلطة الناشئة عن أوسلو "وسخ " تنفيذ الاتفاقيات التي قوبلت أصلا بمعارضة سياسية وشعبية واسعة, وهي مرت بالكاد عبر فتح, ولولا ثقة الشعب الفلسطيني بياسر عرفات, لتم إجهاضها قبل أن تعلن .
المهم أن عرفات والشعب ظن بأن تشكيل السلطة سيجعل من م ت ف بمنأى عن الانحدار وعن وضع القيادة الفلسطينية تحت وطأة الجغرافيا السياسية وقريبا من قبضة إسرائيل, وأن م ت ف ستكون مرجع السلطة والمتحكم بها في نهاية المطاف, لكن هذا لم يحدث, أولا لأن قائد الشعب الفلسطيني تولى رئاسة السلطة بنفسه, وثانيا, لأن م ت ف بقيت بالخارج بمؤسساتها, ولأنها فقدت الكثير من كوادرها الذين التحقوا بالسلطة, وثالثا وهو الأهم لأن المال صار بيد السلطة, فيما بالكاد استمر الصندوق القومي بتوفير احتياجات مؤسسات المنظمة بالخارج . 
وهكذا نشأت السلطة بمرجعية أوسلو كميثاق سياسي لها, وكإطار أيضا, ومن ثم أقتصر تمثيلها واهتمامها بأقل من نصف الشعب الفلسطيني المقيم في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة . وهذا من الطبيعي أن يجعل وعيها وثقافتها مختلفا عما ورثته الثقافة السياسية الفلسطينية منذ منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى عام 1994, العام الذي تشكلت فيه السلطة الفلسطينية .
ثم كان تدخل إسرائيل بالواجهة الأمريكية لإدخال حماس كرأس قيادي ثان عبر فرض انتخابات المجلس التشريعي الثاني عام 2006, والجميع يعلم مآله سلفا, مما جعل من السلطة أداة انقسام وشقاق, بين اكبر حركتين سياسيتين, أي فتح وحماس, ومن ثم بين جناحي الوطن, غزة والضفة . 
وكان هذا بعد أن خرج القائد التاريخي ياسر عرفات من موقع القيادة بتدبير عملية الاغتيال البيولوجي الممنهجة له, ليحل مكانه الأخ محمود عباس المعروف بأنه أولا مهندس أوسلو, وثانيا بأنه سياسي لا وجود لمفردة المقاومة المسلحة في قاموسه, كما أنه لم يمارسها يوما طوال سبعة عشر عاما, ما بين عامي ( 1965_1982), بل إنه لم يشاهد وقد ارتدى يوما ملابس الفدائي أو أنه حمل مسدسا أو بندقية رغم أنه من الرعيل الأول لحركة فتح ! 
تلازم حكم محمود عباس الذي تلا مصرع ياسر عرفات شهيدا, بفعل إسرائيلي دنيء وجبان, مع حكم حماس في العامين المتتاليين 2005,2006, ليظهر الانقسام أولا, والعجز عن دحر الاحتلال ثانيا, بل وحتى عن المضي بتنفيذ أوسلو وفق أجندة الوهم التي اعتقدت بأن سلطة الحكم الثاني مؤقتة, وأنها إطار المرحلة الانتقالية لمدة خمس سنوات, وأن الخمس سنوات ستشهد انسحاب إسرائيل من 90% من الأرض المحتلة عام 1967, لأن التفاوض النهائي على الحدود والمستوطنات والقدس والموارد الطبيعية لن يحتاج أكثر من 3_10% من مساحة تلك الأرض المحتلة  .
لكن رغم الفشل المبكر والذي عبر عنه اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000, إلا أن سلطة الحكم الذاتي بقيت قائمة, بل والأنكى من ذلك أن السلطة التنفيذية منها هي التي بقيت فقط, دون السلطة التشريعية حيث قامت إسرائيل أولا بتعطيلها من خلال اعتقال عشرات الأعضاء منها, خلال عام 2006, ومن ثم قام الانقسام بالمهمة, ليضاف أيضا تعطيل السلطة القضائية, من خلال الاتهام المتبادل بين "قبضتي" السلطة المنقسمة في غزة ورام الله . 
خلال أحد عشر عاما لم تنجح السلطة بإنهاء الانقسام ولا بفرض أي انحسار على الاحتلال, وخلال ربع قرن صارت السلطة مترهلة وبيروقراطية جدا, خاصة بعد أن انتهج رئيسها سياسية التشكيلات التكنوقراطية منذ عام 2007, لتمرير خلو أركان السلطة التنفيذية من الكوادر الوطنية التي قارعت إسرائيل, إن كان خلال الكفاح المسلح أو خلال الانتفاضة الأولى, حيث خير مثال على ذلك استمرار بقاء مروان البرغوثي في السجن مقابل جلوس محمود عباس على مقعد رئاسة السلطة ! 
لا يمكن أن يقبل أركان نظام فاسد وعاجز ومعيق للمشروع الوطني أن يتم حسم أسوأ ملف داخلي, وهو ملف الانقسام, لأن سلطة تشكلت بمعرفة إسرائيل وتطورت بالاتجاه السلبي المعاكس للاتجاه الوطني ستظل تقف معارضا للإصلاح الداخلي, ولإنهاء الانقسام .
يمكن لمن يريد أن يرى بوضوح الصورة أن يقوم باستعراض أركان السلطة إن كان عبر أعضاء الحكومة, أو أجهزة الأمن أو عبر حزب السلطة الحاكم, ونعني به جناح فتح / عباس, سيرى بأنهم أشخاص أما أنهم اعتزلوا العمل الوطني, أو أنهم ممن كانوا يجلسون على هوامشه, أو أنهم لم يمارسوه يوما, أو أنهم أناس يمكن وصفهم بأنهم محترفون للعمل السياسي وليس حتى للعمل الوطني, فقد اثروا في ظل مرحلة الكفاح الوطني, ولم يسبق لمعظمهم أن اعتقل أو جرح أو طورد .