كعادتنا بين الفينة والأخرى، ذهبت أنا وزوجتي لزيارة جدتها من أمها، التي بلغت من الكبر عتيا، وتعاني من أمراض الشيخوخة، والتي تسكن بأحد الأحياء المجاورة لنا.
هذه الجدة الطيبة، المواظبة على الصلاة والتسبيح، تُقيم مع ابنها وزوجته، اللذين يَبران بها، ويقُومان على شؤونها، وبعد السؤال عنها والاطمئنان عليها، سألت ابنها ـ خالُ زوجتي ـ عن أحواله وعن ظروف العمل.
فأخبرني أنه أحيل على التقاعد في هذا الأسبوع، بعد أن بلغ سن الخمسين، كما هو جار به العمل في أسلاك القوات المسلحة الملكية، في مثل رتبته، وهو الذي كان يعمل جنديا بسيطا، دخل إلى الجندية، ولم يكمل دراسته بعد.
فقلت له مواسيا ومشجعا، صديقي، أنت والحمد لله بصحة جيدة، وتتمتع بلياقة بدنية عالية، ومعروف بنشاطك، وخفة حركتك، وكثرة علاقاتك الاجتماعية، وقدرتك التواصلية، وتُحسن كثيرا من المهارات، يُمكنك أن ترتاح لبعض الأشهر، ثم تُفكر في عمل مناسب شريف، تملأ به وقتك، وتُحقق به ذاتك، وتستعين بمدخوله على تحسين أحوال أسرتك.
فأجابني بعفوية وعلى الفور، لا أجلس في البيت أسبوعا واحدا من دون عمل، سألته مستفسراً: لم؟
أجابني صديقي بسرعة، ومن دون إطالة تفكير، وقال بلغة عامية :” أتريدني أن أظل يومي أقول لزوجتي، لِمَ المَخَدة عُوْجَا”يقصد: ” لِمَ الوسادة غير مُوظبة جيدا في مكانها”.
قلت لصاحبي: هل من اللازم إذا جلس الزوج في البيت، أن يُعكر صَفْو زوجته بكثير من الملاحظات، وتتبع الهينات، وكثرة ” النْكِير” .
ألا يمكن أن يُحْسن فَن التَغافل؟
قال صاحبي: وما التغافل؟
قلت له التغافل: هو أن تتكلف الغَفلة، مع العلم والإدراك لما يُتغافل عنه، تَكرماً وترفعاً عن سَفاسِف الأمور، وهو من حُسْن العِشْرة، خاصة بين الأزواج. فمن فقه الحياة الزوجية التغاضي عن دقيق المحاسبة.
قال صاحي: أغلب الأزواج عندما يكون في عَطالة، يَصْدر منه الذي ذَكرت، وقليل منهم من يُحسن أدب التَغَافل. فلا بد له أن “يَنْكِر على زوجته”، وإذا سكت في يومه، يقول لها: غدا “النْكِيرْ” كما تحكي القصة المعروفة، حين تخاصم زوجان، وذهبا إلى القاضي لإجراء الطلاق، فحاول القاضي أن يُصلح بينها ، وأخذ العهد من الزوج أن يُبطل ” النكير” .
قلت لصاحبي: قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ” أدب التغافل ” ( لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ) رواه مسلم.
ربما أن ما كَرِه منها، تَسعى بتعديله أو تبديله. وأما الزوج الذي يغض عن المحاسن، ويَلحظ المساوئ ولو كانت قليلة، فهذا من عدم إنصافه، ولا يكاد تصفو له الحياة مع زوجته.
وهذا الأدب النبوي الرفيع، أصبح للأسف الشديد، كالعملة النادرة في حياتنا الأسرية، فما أن يرى الزوج خطأ من زوجته، مهما كان نوعه وتفاهته، إلا وبادر لمُعاتبتها، وتقريعها، ومخاصمتها..
وللأسف تـرى البعـض لا يرى في زوجته إلا السلبيات، نقد في نقد، وتحطيم لشخـصيتها، ولا تقع عينه إلا على العيوب، أما الإيجابيات فعلى عينيه غشاوة من رؤيتها …
لذلك ترى مثل هؤلاء، لِدُنو همتهم، يُحْصون الصغيرة ، ويجعلون من الحَبة قُبة ، ومن القُبة مزاراً كما يقال.
لذلك ترى الواحد منهم ،إن قصرت زوجته في أمر بسيط، أكلها بلسانه، وأكثر عليها الانتقاد، وكرر الملاحظات..حتى تمل منه زوجته.. لأنه لا يرى في الصفحة البيضاء إلا الأسود.
فبعض الأزواج يجعل المساوئ نصب عينيه، وربما مددها وبسطها وفسرها بظنون وتأويلات، تجعل القليل كثيرا، كما هو الحال في واقعنا المعيش.
وكان الأحرى بالزوج إن رأى من رفيقة عمره خطأ هينا، أو تقصيرا بسيطا، أو اجتهادا معينا، أو رأيا خاصا..أن يتفهم ، وأن يتغافل.. فقد اعتبر الإمام أحمد رحمه الله:” تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل”.