ظاهرة ترامب بالمعنى الكبير للكلمة..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

لا ينبغي إسقاط احتمال أن يُكمل الرئيس الأميركي ترامب فترته الرئاسية، ولا حتى الفوز بفترة ثانية. 
ولا ينبغي إسقاط احتمال أن يُعزل قبل نهاية فترته الرئاسية، أو يُرغم على الاستقالة. ولا ينبغي، أيضاً، إسقاط احتمال أن يُنهي ما تبقى له من أيام في هذه الدنيا، بعد مغادرة البيت الأبيض، وراء القضبان في السجن.
كل هذه الاحتمالات قائمة، ويصعب ترجيح احتمال على آخر، في الوقت الحاضر، ولكن الأكيد أن أحداً من الرؤساء الأميركيين لم يجد نفسه في وضع تتساوى فيه الاحتمالات كما يحدث الآن مع ترامب. 
ومن المؤكد، أيضاً، أن تاريخ هؤلاء لم يشهد شخصاً مثله، وأن شخصاً كهذا يشكّل خطراً على أميركا، وعلى العالم.
ولا نعني بالخطر إشعال حروب، وتصعيد أزمات في مناطق مختلفة، فقد فعل رؤساء سبقوه ما يشبه هذا وأكثر منه، ولا نعني حتى تقويض أركان نظام الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة نفسها، بل نعني ما طرأ بعد صعود ترامب، وما سيطرأ، من انقلاب على مفاهيم وتصوّرات وثيقة الصلة بمعايير وأساطير وآداب السياسة والرياسة.
خلاصة المعايير والآداب، سواء عدنا إلى زمن الإسكندر المقدوني، أو ثبّتنا أبصارنا على القرن الواحد والعشرين، أن مَنْ يصل سدة الحكم يتمتع بمزايا عقلية وإنسانية ومهارات نادرة تؤهله لاتخاذ قرارات تمس حياة ما لا يحصى من بني البشر. 
والخلاصة أن أغلب بني البشر يُصدّقون هذا الكلام، ويصدّق هذا الكلام، طبعاً، ويُرغمون الآخرين على تصديقه، مَنْ أوصلتهم المقادير إلى سدة الحكم.
وهذه الخلاصة أسطورية تماماً، فقد عرف التاريخ على مدار قرون طويلة ما لا يحصى من النصابين، واللصوص، والمغامرين، والحمقى، الذين أوصلتهم المقادير إلى سدة الحكم، والذين عوملوا في زمانهم بوصفهم عباقرة ومُخلّصين، ورُفعوا إلى مرتبة العظماء.
المهم أن أسطورة السياسة والرياسة، خاصة بعد "نزع السحر عن العالم"، في الأزمنة الحديثة، وتحويل الحكّام إلى موظفين ترفعهم إلى سدة الحكم أصوات المواطنين، وتُخرجهم منها أصوات المواطنين، فرضت الالتزام بآداب معيّنة منها التجرّد عن الهوى، والمصلحة الشخصية، والتحلي بقيم العدل، والنزاهة، والاستقامة. 
وحتى في الأنظمة الشمولية، يزيّف الحكّام الانتخابات، ويبررون وجودهم في سدة الحكم بإرادة الشعب، ويحرصون أكثر من غيرهم على ادعاء التجرّد، والاستقامة، والتعالي على المصلحة الشخصية، والتفاني في حب البلاد، وخدمة العباد. 
ولا ضرورة للتذكير بحقائق من نوع أن أنظمة الحكم الديمقراطية، والشمولية، على حد سواء، عرفت أشخاصاً لا يقلّون عن دونالد ترامب نرجسية، وابتذالاً، وجهلاً، وميلاً إلى الأداء المسرحي، والفهلوة، ولكن الفرق بينه وبين الآخرين أن هؤلاء، ومَنْ صنعوهم كشخصيات عامّة، وضعوا أقنعة مغايرة على وجوههم، بل وجعلوا بعضهم فلاسفة ومفكرين، خلافاً للأخ ترامب الذي ينسف كل أسطورة السياسة والرياسة، في كل مكان من العالم، بأفكار ودلالات مضادة من نوع:
وما ضرر النرجسية، والجهل، والابتذال، والأداء المسرحي، والفهلوة، إذا ربحتم المال، وتوفر لكم المزيد من مواطن الشغل، ومع هذا وذاك استعادت أميركا هيبتها؟ وما المشكلة إذا كان رئيسكم تاجر عقارات، وابن سوق يلعب بالبيضة والحجر، وتخيّل الحياة بوصفها سوقاً، والسياسة بوصفها فن البيع والشراء؟ وما المشكلة إذا كان كارهاً للنساء، وعنصرياً معادياً لغير البيض، ومتعدد العلاقات الغرامية، ولا يقيم وزناً لغير المال بوصفه أعلى وأسمى القيم، إذا كان في وسعه إخراجكم من عنق الزجاجة؟
المشكلة بالمعنى الصغير أن كل ما تقدّم لا يضمن الربح، ولا يوفر مواطن الشغل، ولا يستعيد هيبة، والأهم من هذا وذاك أن تاجر العقارات كذب كثيراً بشأن ثروته الشخصية، فهي أقل مما يزعم بكثير، والأسوأ وهذا ما قد تكشف عنه المحاكم الأميركية إذا أقيل ترامب، أو حوكم، أن جانباً من ثروته الشخصية، ربما الأكبر، تحقق بوسائل يُعاقب عليها القانون. 
فعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية حوكم أربعة أشخاص داروا في فلكه، في وقت ما، بالتحايل، والتهرّب الضريبي، وتبديد المال العام.
أما المشكلة، بالمعنى الكبير، فتتمثل في حقيقة أن العالم يعيش أزمة حقيقية متعددة المصادر نجمت عن تضافر تداعيات الانهيار الاقتصادي في العام 2008، والإرهاب، والحروب الأهلية، والهجرة، أو "النفايات البشرية" بلغة زيغمونت باومن، وسلبيات العولمة، وهذه الأشياء كلها معطوفة على الفشل في إرساء قواعد جديدة لنظام عالمي يضمن الأمن والسلم الدوليين بعد انهيار جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة.
الشعبوية في أول عقود القرن الواحد والعشرين، بالحساسية اللغوية والدلالية للقرن نفسه، هي أقرب ما تكون إلى نازية وفاشية ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما تجلت في الحساسية اللغوية والدلالية ما بين عشرينيات وأربعينيات القرن العشرين.
وليس من الحكمة ألا نتوقّع في زماننا هذا نتائج لظاهرة تتخلّق تحت أبصارنا، الآن وهنا، ولا تقل كارثية، وخطراً على أمن وسلام العالم، مما أنجبته الأيديولوجيات الشعبوية في النصف الأوّل من قرن مضى.
وهذه هي الدلالة الأخطر لظاهرة ترامب، بالمعنى الكبير للكلمة. لن تختفي الظاهرة مع اختفاء الشخص، ولن تظل محصورة في أميركا، سيظهر ترامبات آخرون في أماكن مختلفة، هذا غير من هم في سدة الحكم الآن، ولكن تأثيرها يعتمد على طريقة خروجه أو إخراجه من الحقل السياسي، في بلد المنشأ، وعلى إمكانية سماع دوي الرنين الحاد لأكثر من جرس للإنذار. فالحياة ليست سوقاً، والسياسة ليست فن البيع والشراء، وادعاء التحلي بالقيم، ولو كذباً، أسلم من تحويل النرجسية والجهل إلى فضائل في فنون السياسة والرياسة.