مع تصاعد الحرب العدوانية على أهلنا في غزة، واشتداد شراستها، ومع حجم الدمار الهائل، وعدد الضحايا غير المسبوق.. أُصبنا جميعاً بخيبة أمل من تقاعس وعجز المنظمات الدولية عن التدخل لوقف العدوان، أو على الأقل للقيام بأدوارها في إدخال المساعدات وإنقاذ الضحايا، وكانت الخيبة الأكبر في صمتها، أو في مواقفها المريبة والضعيفة، وأحياناً المتآمرة.
وقد بدت تلك المنظمات مستسلمة لنفوذ اللوبي الصهيوني، وضغوطات الإدارة الأميركية، ومتأثرة بالبروباغاندا الإسرائيلية، ومتساوقة معها إلى حد ما.. ويجب ألا ننسى أن منظمات الأمم المتحدة على وجه الخصوص مصممة من الأساس على نحو يلبي إرادة وتوجهات الدول الكبرى، أو على الأقل عاجزة عن تجاوز حدود معينة، وبالذات مجلس الأمن.
ومن باب الإنصاف والموضوعية أعتقد أنه من الخطأ التعميم، والقول إن جميع المنظمات والمؤسسات الدولية تصرفت كذلك، فبعضها تصرف بقدر الإمكانات المتاحة، وبعضها حاول جهده، ولكنه فشل أو تقاعس، فمثلاً وكالة الغوث حاولت ضمن الحدود المتاحة أن تقدم المساعدات الإغاثية، وقد استشهد نحو 150 من موظفيها أثناء تأديتهم واجباتهم..
لكن منظمات أخرى ظهرت أحياناً منحازة لإسرائيل، أو متساوقة معها، أو أخذت موقفاً حيادياً سلبياً، وبعبارة أدق موقفاً جباناً، ولا يتناغم مع رسالتها الإنسانية وأدوارها الوظيفية.
بعض المنظمات اكتفى بالبيانات وتوثيق الإحصائيات وبنشر «بوستات» على صفحاته تدين بشكل خجول جرائم إسرائيل، في حين أنها لم تكن مقيدة ولا متحفظة بهذا الشكل في مناطق أخرى من العالم، خاصة في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث نلاحظ بوضوح ازدواجية المعايير. ومع ذلك، فإن توثيقاتها وتصريحاتها كانت مهمة جداً وقد استندت إليها جنوب إفريقيا في مرافعتها ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية.
ما يهمنا هنا موقف الجماهير وبالذات النخب المثقفة والمؤثرين تجاه تلك المنظمات؛ فقد تجاوزت خيبة الأمل الموقف من دور تلك المنظمات والأدوار المفترض أن تقوم بها إلى الخيبة من الرسائل الإنسانية والأهداف النبيلة التي أقيمت من أجلها تلك المنظمات.
بمعنى آخر، من الطبيعي والمشروع أن ندين تقاعس تلك المنظمات، وأن نستنكر صمتها وعجزها.. لكن من غير المقبول أن تتحول الإدانة والاستنكار إلى جوهر ومبادئ ورسائل وأهداف تلك المنظمات، وتحديداً ما يتعلق بحقوق الإنسان، وبالقانون الدولي، وبالقانون الإنساني، وأهدافها الرامية لتحقيق العدالة والسلام والمساواة والأمن والديمقراطية، ونبذ العنصرية.
فمثلاً، صرنا نقرأ ونسمع تصريحات تدعو لرفض كل تلك المبادئ، وللكفر بالقيم التي تبثها، والقوانين التي تتبناها تلك المنظمات، حتى أن أساتذة جامعيين صرحوا بأنهم نادمون على تدريس طلبتهم شرعة حقوق الإنسان، والقوانين الدولية!! وآخرون باتوا يقولون: إن كل مبادئ وشعارات الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمساواة، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحقوق أسرى الحرب، والشرعية الدولية.. إلخ، كلها سقطت، وتبين أنها زائفة، وأن الغرب يستخدمها للتغطية على جرائمه، بل إنها قيم من صنيعة الغرب الإمبريالي الكافر، وبالتالي يتوجب رفضها واستنكارها.
وهنا لا بد من التمييز بين جوهر ومبادئ ورسائل وقيم المنظمات الدولية والإنسانية وبين مدى التزامها بتلك المبادئ والأهداف، وتطبيقها لها.. بالمثل، كما يجب التمييز بين جوهر الإسلام ورسالته العظيمة وبين ممارسات المنظمات الإسلامية والأفراد المسلمين والدول الإسلامية.
وثانياً، يتوجب الإدراك أن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، والقوانين الدولية ليست نتاجاً للغرب، ولم تكن كذلك يوماً ما، بل نتاج لمسيرة طويلة وشاقة للحضارة الإنسانية وللبشرية جمعاء، ساهمت بها كل الشعوب والحضارات، ومن بينها الحضارة العربية والإسلامية، وبالتالي هي ملك لجميع البشر على امتداد المعمورة، وليست حكراً للدول الغربية، حتى لو ادعت أنها صانعتها، ومن يمثلها.
وثالثاً: إذا أسقطنا كل تلك القيم ونبذناها، فإن البديل الذي ستنشأ عليه الأجيال هو شرعة القوة والبطش، وعدوان القوي على الضعيف، والفوضى، والظلم، والفساد، والحروب، والقمع، والاضطهاد.. فالقانون الدولي أنشئ خصيصاً لتنظيم حياة المجتمعات والدول، فإذا غاب أو أُسقط سيتحول العالم إلى غابة، والناس إلى وحوش.
ورابعاً: قوة القضية الفلسطينية من عدالتها وأخلاقيتها، فقد تضامنت شعوب العالم مع الفلسطينيين لأنهم ضحايا ومظلومون، وأيدوا كفاحهم لأنه يمثل الكفاح ضد العدوان والاحتلال والعنصرية والظلم، ولأنه كفاح مشروع في سبيل الحرية والعدالة والحقوق الوطنية، ومنسجم مع القوانين الدولية.. فإذا ما تخلينا عن أخلاقيات ورسالة الكفاح الفلسطيني وأخلاقيته نصبح مجرد وجه آخر للقوة والعدوان. وإذا ما تخلينا عن أهدافنا ومضامين ثورتنا الأخلاقية والإنسانية لن نجد أحداً في العالم يقف معنا.
وخامساً: خلقت تداعيات هذه الحرب، والتضحيات الجسيمة التي قدمها الفلسطينيون تغييراً كبيراً في الرأي العام العالمي، ليس فقط تجاه تأييد الحق الفلسطيني، بل أيضاً تجاه توعية شعوب العالم بجذور القضية وأساس الصراع، وإدراكها للطبيعة الاستعمارية لإسرائيل، وكونها جزءاً من تحالف إمبريالي يهدد أمن وسلام العالم كله، وإدراكها أنَّ بنية النظام الدولي قائمة على منطق القوة والعربدة الأميركية، وبالتالي بدأت تتولد لدى شعوب العالم قناعات وتوجهات بضرورة الثورة على الهيمنة الأميركية وتغيير أسس النظام الدولي، وتحديداً قضية الفيتو الأميركي في مجلس الأمن.
فضلاً عن افتضاح ازدواجية المعايير من قبل الدول الغربية، وانكشاف مدى الزيف والكذب في تبني تلك الدول للقيم الحضارية والقوانين الدولية، الأمر الذي وضعها في موقف حرج تجاه شعوبها، وتجاه شعوب العالم بعد أن صارت قيمها على المحك.. وهذا كله يدعونا للاستمرار والمواصلة، وهذا لن يكون ممكناً مع وجود دعاية أيديولوجية تدعو للتخلي عن القانون الدولي ونبذ كل القيم الحضارية والإنسانية بحجة أن أميركا وأوروبا والمنظمات الدولية أسقطتها فعلياً.
أتفهم تماماً حجم الإحباط من الموقف الدولي، ومن سلبية المنظمات الدولية، وضرورة تعريتها وفضحها.. لكن علينا ألا نقع في فخ الشعبوية والخطاب العاطفي المتشنج، والذي لا يميز بين القيم الحضارية والإنسانية، ومن بين هو مطلوب منه تمثيلها وتبنيها وتطبيقها.