تعود علاقتي بنتاجات وإبداعات الروائي السوري الكبير حنا مينه، إلى الإرهاصات الأولى في تجربتي الكتابية، حيث كنت أقبع في المعتقل بداية الثمانينيات من القرن الماضي، بعد أن اعتقلت على خلفية نشاطات وفعاليات طلابية. ولما تنبّه أحد المعتقلين القدامى – وكان مثقفاً واسع الاطلاع لبعض محاولاتي الكتابية، نصحني بقراءة كل ما تقع عليه يداي من كتب لهذا الروائي الكبير، وقدم لي من مكتبة المعتقل رواية "المصابيح الزرق"، لأجد نفسي وقد وقعت في شباك كاتب مختلف، ورحت أبحث في "مكتبة المعتقل" عن كل ما يتعلق به أي ما كتبه هو، وما كتبه عنه الآخرون. وقرأت بعد ذلك "الأبنوسة البيضاء" و "الشراع والعاصفة" و"الثلج يأتي من النافذة" و"الشمس في يوم غائم" و"الياطر". وبعد تحرري من الاعتقال استمرت رحلتي في عالم حنا مينه، فقرأت "نهاية رجل شجاع" و"الولاعة" وناظم حتمت – السجن – المرأة – الحياة" و"وفوق الجبل وتحت الثلج" وغيرها.
بيد أنني حينما قرأت كتابه "كيف حملت القلم" أدركت أنني طالب في مدرسة أدبية وثقافية استثنائية، وايقنت أي خيط دقيق يفصل بين الموهبة والمراس، وكيف يمكن إزالة هذا الخيط بدقة ودراية، لتصبح الموهبة والمراس جسماً واحداً، روحاً واحدة، رؤية يتكامل فيها الحرف الذي يخطه القلم مع الخطوة التي يرسمها الكاتب وهو يمشي على الأرض في ميدان الحياة، فقد رأى "مينه" أن الموهبة تشكل ركناً رئيساً في التجربة الكتابية لكنها تظل جامدة ومحدودة إذا لم تصقل بالمراس، وهو نفسه يؤكد في الكتاب المذكور "أنه تعلم على قارعة الطريق"، بمعنى تعلم من الناس، ومن مشاهداته، ومن تلك النار التي اكتوى بها طفلاً وشاباً نتيجة الفقر والمرض والتشرد والعمل في مهن صعبة وقاسيه ومن ثم المنفى، حيث ألم البعد القسري عن الوطن.
والحقيقة أن الكتاب شكل بوصلة بالنسبة إليّ، ووضعتني في تلك الفترة ككاتب شاب أمام تجربة عملاقة كل حرف فيها معجون بالدم والعرق والأعصاب المشدودة المستنفرة، فنهلت من الكتاب ما استطعت من مواقف ومفاتيح كتابية وثقافية، صارت من مكوّنات قاعدة ارتكازي في تجربتي الكتابية، وحتى بعد أن أصدرت عشرين كتاباً بين قصة ونص مفتوح ودراسة ثقافية وفكرية، وبعد أن نشرت عدداً كبيراً من المقالات والمعالجات وأوراق العمل والبحوث، ظل "كيف حملت القلم" دليلي الذي أعود إليه كلما شعرت بحاجتي إلى طاقة جديدة أو رؤية استشرفاية. أما في الأعمال الروائية لـ "مينه" فإن القارئ يجوب مع الكاتب عالم البحر بكل تفاصيله، وصراع البحارة والميناء، والأحياء الفقيرة المسحوقة في المدن، يجوب معه بين أبعاد يتجلى فيها زهد وإرادة الإنسان من جهة وجشعه وطمعه من جهة أخرى.
تعمد "مينه" على الساحل السوري، لكنه أيضاً توسع قلماً وجغرافيا ورؤيا، عندما جرت أحداث بعض رواياته على أرض أوروبية، موحداً ما بين الثلج والجبل، مخمداً البرودة بعواطف إنسانية مشتعلة.
ويمكن تلخيص نصوص "مينه" على المستوى الفني في الجملة القصيرة المكثفة الذكية الموحية المموسقة التي تتزاوج فيها النبرة النثرية مع النبرة الشعرية، فحنا "مينه"، في مشروعه الإبداعي قلم وكاميرا وقدرة عالية على رصد أدق التفاصيل بمهارة خبير وعمق مفكر، إنها قدرة تباري قدرة الكاتب الأمريكي "جون شتاينيك" المعروف بعبقريته في تشكيل صورة بعيني قلم شديد الإحساس والحساسية.
لذلك وفي رأيي أن "مينه" بما كتب وانتج قد أحدث ثورة على مستوى الرواية العربية من حيث الشكل والمضمون، والجرأة في كسر القوالب التقليدية، وتثوير الجملة وتفعيلها وإخراجها من شرنقة المكرر والتقليدي.
وبرحيل "مينه"، فمن المؤكد أن الساحة الثقافية والإبداعية العربية، تكون فقدت واحداً من أهم رموزها وكفاءاتها، إلا أن ما يعزينا، ذلك التراث الكبير والعميق الذي تركه للقارئ العربي من المحيط إلى الخليج، في القصة والرواية والرؤية الثقافية والسيرة الذاتية وفي الفكر السياسي أيضاً.