أفكارٌ للنقاش

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

الكثيرون من الأصدقاء الذين أحترمهم، وأُقدّر عالياً مواقفهم، واثق بوطنية منطلقاتهم كانوا وما زالوا منذ مجيء ترامب يحذرون من أن هذه الإدارة الجديدة ربما ستذهب في هجومها على الشعب الفلسطيني أبعد من كل تصور، وأنها ربما تكون قد قررت بصورة نهائية ليس مجرد التحايل على الحقوق الوطنية الفلسطينية، وإنما هي ماضية بدون تردد نحو وضع الشعب الفلسطيني وقيادته أمام خيارين لا ثالث لهما:
فإما الإذعان الكامل ـ وليس أقلّ من الكامل ـ للتوجهات الأميركية الإسرائيلية، وإما الشطب والشرذمة والتشتيت والترحيل إذا لزم الأمر.
باختصار كانت وجهة نظر هؤلاء الأصدقاء وما زالت هي أن هذه الإدارة تشبه الثور الهائج، وأن الوقوف في وجه هذا الثور ليس بالأمر السهل، وأن الأمر ينطوي على مغامرة كبيرة إذا لم يتم «إرفاق» المواجهة مع هذه الحالة من الهياج بأدوات سياسية للتخفيف من وطأة الهجوم، ومحاولة الحدّ من آثاره المدمّرة.
استنتاج هؤلاء الأصدقاء أنهم يرجحون في نهاية المطاف تمكن الإدارة الأميركية من «تجاوز» القيادة الفلسطينية وفرض جوهر شروطهم على الشعب الفلسطيني خصوصا اذا لم يتم تحصين البيت الفلسطيني واستعادة وحدة الشعب، وإعادة تفعيل دور المنظمة ومؤسسات النظام السياسي.
وعندما طرحت عليهم السؤال حول إمكانية أن تنجح القيادة الشرعية في إفشال وإحباط هذا الهجوم إن هي مكّنت البيت الداخلي كان الجواب: نعم ولكن بثمن كبير وخسائر فادحة، والنتيجة الوحيدة هي بقاء القضية حيّة وربما متوهّجة أيضاً.
الآن أعود للنقاش.
أين تكمن نقاط الضعف في هذا الاستنتاج؟
أولاً: هل هذا الهجوم مجرّد «نزوة» للرئيس ترامب أم أن الأمر يتعلق بوصول الاقتصاد الأميركي إلى وضع أصبح بموجبه الانحدار في السنوات العشر القادمة نحو التموضع في المرتبة الثالثة أو الرابعة عالمياً محتوماً؟
وهل يقبل أصحاب القرار السياسي الذين يمثلون المصالح العليا والمشتركة للرأسمال الأميركي التنازل عن عرش قيادة العالم، أم أنهم من خلال ترامب يريدون إعادة «تسيُّد» الاقتصاد العالمي عبر «بلطجة» جديدة تشبه بلطجة فرض الدولار على التداول العالمي؟ بدون الوسائل الناعمة التي اتبعت آنذاك؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل سيقبل العالم ـ كل العالم ـ هذه البلطجة، أم أن هذه معركة ما زالت في بدايتها، وهي نذير وإنذار لاضطرابات في مجمل العلاقات الدولية، وفي مفاصل رئيسية لتداخلات المصالح الاقتصادية العالمية؟
ثم ألا ينذر ذلك بصعود فاشية وعنصرية جديدة في العالم قد تؤدي إلى فرز جديد يطيح بالتوازنات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة؟
أقصد هل أن معركة فرض الإذعان التي يقودها ترامب ضد وعلى الشعب الفلسطيني جزء من معركة شاملة أم لا؟ 
إذا كانت الحرب على الشعب الفلسطيني هي جزء من هجوم كوني «كاسح» للرأسمال الأميركي في نسخته المتوحشة والتي ستفرز حتماً فاشية جديدة بنسخة جديدة فالحسابات لا بد وأن تختلف، والرؤى كذلك ووسئال المواجهة والتصدي. 
كيف سينجح ترامب في ترتيب الإقليم كاملاً لفرض شروطه على الشعب الفلسطيني؟ وهل مغازلة الإقليم العربي بالحلف الجديد مع إسرائيل «لمواجهة» إيران كافية وشافية وقادرة على شطب إرادة كامل شعوب هذا الإقليم بهذه البساطة والسهولة؟
المال هو وسيلة الإدارة الأميركية وهدفها وآليات العمل السياسي لديها، ورأس المال الأميركي يخوض معركة مصيرية ولن يتورع عن أي سلوك أو سياسة لفرض هيمنته على العالم الجديد، لكن الرأسمال اليوم ليس أسيراً للإدارة الأميركية، وليس رهينة عند ترامب، ووسائل الدفاع عن الرأسمال المناوئ ليست قاصرة ولا معزولة وهي تتململ حتى وإن لم تكن الأمور قد وصلت إلى الصحوة المطلوبة.
من الخطأ النظر إلى هجوم ترامب على الشعب الفلسطيني بأنه حالة معزولة عن كل السياق العالمي والإقليمي، ومن الصحيح للغاية أن ينظر إلى هذا السياق في رؤية أبعاد وتبعات هذا الهجوم.
إذا ما تمكنت القيادة الفلسطينية من إدراج نفسها في الإطار الأشمل لهذه المواجهة فإنها ستخلق لنفسها ولشعبها شبكة الحماية المطلوبة للصمود.
لكن نقطة الضعف الحقيقية في موقف القيادة الفلسطينية هي البيت الفلسطيني.
وكلمة السرّ في المواجهة هي المنظمة.
صحيح أن مواقف القيادة قد لجمت اندفاعة الإقليم نحو التماشي مع ترامب، وصحيح أن مواقف هذه القيادة قد لجمت مشروع التهدئة وأعادته على طريق وسكة المصالحة وإنهاء الانقسام، وصحيح أن القيادة الفلسطينية قد أجهضت انفصال غزة حتى الآن لكن الصحيح أيضاً أن هذا كله لا يكفي، ولا يحل المشكلة من جذورها.
ولا يكفي أن يطلب ترامب من جديد الاجتماع بالرئيس على هامش الجمعية العامة لكي نطمئن إلى قوة موقفنا دون أن ندرك أبداً قوة موقعنا.
إذا أعيد تفعيل المنظمة بشيء يشبه الثورة في الثورة، ودخلت حماس والجهاد لكي تكونا جزءاً من هذا الإطار القوي والمتماسك، وأجابت الحالة الموحدة على أسئلة المرحلة بحنكة وواقعية وإرادة وطنية موحدة لن تتمكن إدارة ترامب ولا اليمين القومي الديني المتطرف في إسرائيل من النيل منا.
نعم سندفع ثمناً باهظاً لهذه المواجهة، ولكن النتيجة لن تكون مجرد إبقاء القضية حية أو متوهّجة، وإنما سندخل مع نهاية هذه المواجهة في مرحلة فرض حقوق الشعب الفلسطيني على الأرض بإرادة دولية فاعلة وبحاضنة إقليمية جديدة.
ولذلك كله فالمسألة برسم الرئيس والقيادة لأن المعركة باتت على الأبواب، وكل شيء سيعتمد على البيت الداخلي. لدينا وليس لدى غيرنا مفتاح الصمود والحل الوحيد الممكن، وعلينا أولاً سيعتمد مسار تطور هذه المنطقة مستقبلاً.