اعتمد العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز منذ توليه مقاليد الحكم في السعودية سياسة جديدة مختلفة بشكل واضح عن سياسة خلفه الملك عبد الله، وظهر الخلاف جليًا في كيفية التعامل السعودي مع ما يجري في المنطقة، إذ ركزت السياسة السعودية الجديدة على إعطاء الأولوية لمجابهة ما تسميه «الخطر الإيراني» على أي شيء آخر، لدرجة أن حكام الرياض غيّروا موقفهم من جماعة «الإخوان المسلمين»، الذين اعتبروهم منذ ما سمي بـ»الربيع العربي» وصعود دورهم في المنطقة خطرًا داهمًا لا يقل عن خطر إيران.
وجدت السعودية أنه لا يمكنها أن تحارب على أكثر من جبهة في وقت واحد (إيران، والإخوان المسلمون، وتصاعد خطر الاٍرهاب، خصوصًا بعد النجاحات التي حققها «داعش» في سورية والعراق)، فاختارت أن تركز على جبهة واحدة هي الجبهة الإيرانية، وسعت لترميم علاقاتها مع «الإخوان المسلمين» الذين تتعاون معهم في سورية، وأخذت تتعاون معهم (يقال بعد وساطة حمساوية) في اليمن، وما شجع الرياض على اعتماد هذه السياسة الجديدة أن الإخوان المسلمين، بما فيهم «حماس»، ابتعدوا عن إيران، وأيّدوا الشرعية في اليمن في رسالة واضحة بتأييد السعودية في «عاصفة الحزم» التي أشعلتها.
لم يكن التقارب السعودي - الحمساوي ممكنًا لولا الخلاف الحمساوي - الإيراني على التعامل مع الثورات العربية، وتحديدًا نظام بشار الأسد حليف طهران المهم.
صحيح أن هناك بعض التحسن في علاقة «حماس» بإيران بدأنا نلمسه في الآونة الأخيرة، لكن هذا التحسن لم يصل إلى ما كانت عليه العلاقات من قبل، إذ قدمت طهران مساعدات سياسية وعسكرية ومالية ضخمة كان من المتعذر على «حماس» أن تصمد كل هذا الصمود من دونها، وأن تخوض الحروب التي خاضتها في مواجهة ثلاثة اعتداءات إسرائيلية ضد قطاع غزة كانت تستهدف توجيه ضربة قاصمة لـ»حماس» من دون أن تؤدي بالضرورة إلى إسقاط حكمها، لأن البديل عن حكم «حماس» غامض وقد يكون أسوأ منها، لذا كانت السياسة الإسرائيلية إزاء «حماس» تقوم على ضرورة إضعافها، وتوجيه ضربات جدية لها من دون إسقاطها؛ لضمان وجود قوتين وسلطتين متنازعتين بين الفلسطينيين تستنزف قواهم في صراع داخلي، ولكن مع ضرورة وجود قوة كافية لـ»حماس» حتى تضمن الالتزام باتفاقات التهدئة التي عقدتها مع إسرائيل.
بدأت القصة من خلال موافقة العاهل السعودي أثناء لقائه بالرئيس الأسبق جيمي كارتر في شهر آذار الماضي على اقتراح باستضافة لقاء للمصالحة الفلسطينية، يمكن أن يحضره رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، وهي إشارة إلى أن التغيير الذي حصل تمثل بالانتقال من القطيعة إلى عودة اللقاءات والاتصالات، ولكنه محدود حتى الآن؛ لأن اشتراط السعودية موافقة الطرفين على استضافة لقاء للمصالحة الفلسطينية ووجود فرصة لنجاح اللقاء وعدم الإساءة للدور المصري يعني وضع الفيتو بيد الرئيس أبو مازن الذي لا يرغب بتحقيق المصالحة إلا وفق شروطه التي لا تقبلها «حماس».
إن قبول استضافة الرئيس أبو مازن وخالد مشعل والفصائل الفلسطينية في السعودية - كما أبلغ الملك سلمان كارتر - مشروط بتقديم أبو مازن ومشعل طلبًا بذلك، إذ يمكن السعي للتوصل إلى اتفاق «مكة 2» شريطة عدم المساس بالدور المصري الذي يرعى المصالحة الفلسطينية منذ وقوع الانقسام الفلسطيني.
لقد جرت المبالغة من أطراف مختلفة وجهات وأهداف مختلفة بمغزى ومدى التغير في الموقف السعودي إزاء حماس، ومدى كونه دليلًا على اختراق في موقف الرياض منها، إذ بقي التغيير حينها محدودًا، فكان بمقدور العاهل أن يوجه الدعوة إلى اللقاء، وهذا سيضع الفرقاء الفلسطينيين تحت أمر واقع لا يستطيعون تجاهله أو عدم تلبية الدعوة.
ثم شهدنا فصلًا آخر عندما قام وفد من «حماس» برئاسة مشعل بزيارة السعودية لأداء العمرة، وصورت «حماس» هذه الزيارة وما شهدته باعتباره كسرًا للجمود وبداية جديدة في العلاقات، وتحدثت عن لقاءات مع المسؤولين السعوديين شملت لقاء مع العاهل السعودي وولي العهد وولي ولي العهد، وأن الزيارة ستتبعها زيارة أخرى في الشهر القادم، في حين أن وكالة الأنباء السعودية قد اكتفت بالإشارة إلى قيام وفد من «حماس» بمعايدة العاهل السعودي بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك من دون أي إشارة إلى أي لقاءات، بينما أدلى وزير الخارجية السعودي بتصريح قال فيه إن وفد «حماس» أدى العمرة فقط، وهذا حقهم كأي مسلم، ولم تكن زيارته سياسية. وأكد أن موقف السعودية من «حماس» لن يتغير، وكذلك الحال بالنسبة لموقفها في دعم السلطة الفلسطينية، ودعم جهود مصر للحفاظ على أمنها داخليًا.
وهذا دليل آخر على أن الاختراق في العلاقات الحمساوية - السعودية لم يحدث، بل ربما ما حدث العكس من ذلك بأن الزيارة لم تحقق هدفها، لأن الرياض تريد من «حماس» انحيازًا شاملًا لصالحها في مواجهة الخطر الإيراني، وإلا لماذا تجاهلت وسائل الإعلام السعودية الزيارة في وقت أبدت فيه الاهتمام والترحيب الكبيرين بزيارة سمير جعجع، الذي تشجعه السعودية للوقوف في وجه حزب الله وحلفائه في لبنان؟
التصريحات التي أدلى بها مشعل والعديد من قيادة «حماس» بعد الزيارة أشارت إلى حرص «حماس» على إقامة علاقات جيدة مع طهران والرياض وكل الأطراف، لأن القضية الفلسطينية جامعة، ولأن «حماس» لا تريد أن تتدخل في الصراعات الداخلية العربية، أو أن تقع في دائرة التجاذبات الإقليمية والدولية؛ لذلك نفت «حماس» بشدة الأنباء التي روجتها وكالة «فارس» الإيرانية عن موافقة «حماس»على إرسال 700 عنصر لمساعدة السعودية في حربها في اليمن. فـ»حماس» دفعت ثمنًا غاليًا لموقفها من الأحداث في سورية، ولا تريد أن تكرر الغلطة.
كما تعلم «حماس» أن استبدال تحالفها من طهران إلى الرياض يعني أنها لن تستطيع أن تحافظ على خيار المقاومة المسلحة، الرافعة الكبرى التي أوصلت «حماس» إلى ما هي عليه، فالتحالف مع الرياض قد يؤدي إلى حصول «حماس» على دعم مالي ولكنها لن تبقى تنظيمًا مقاومًا، لأن الرياض والدوحة وأنقرة يريدون ترويض «حماس» لتكون مقبولة أميركيًا ودوليًا وإسرائيليًا، لا تزويدها بالسلاح لكي تقاوم إسرائيل التي تشعر السعودية أنها تتقاطع معها بموقف مشترك يقوم على إعطاء الأولوية للخطر الإيراني، خصوصًا بعد «الاتفاق النووي» الذي عارضته الرياض وتل أبيب، والذي يمكن أن يزيد من قوة إيران بعد اعتمادها كدولة نووية، وبعد إعادة أموالها المصادرة ورفع العقوبات عنها.
نعم هناك تحسن في علاقات «حماس» مع حكام الرياض، لكن هذا التحسن لن يصل إلى اختراق إلا إذا انتقلت «حماس» من معسكر الممانعة والمقاومة كليًا وانضمت إلى معسكر «عاصفة الحزم» والوقوف ضد إيران و»الخطر الشيعي».
لا شك أن هناك نزعات وتيارات مختلفة ستؤثر على قرار «حماس» بين من يعارض ومن يؤيد أن يتعايش مع الواقع العربي والإقليمي الجديد، ولو على حساب «حماس» بوصفها جزءًا من حركة التحرر الوطني الفلسطيني، بما يعزز من كون «حماس» الامتداد الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين.
نسمع داخل «حماس» أصواتًا تشيد بدعم إيران وتدعو لإعطاء التحالف معها الأولوية. ونسمع أصواتًا أخرى تدعو إلى قيام مشروع عربي إسلامي بقيادة السعودية، وتطالب بدخول سعودي على خط المصالحة، ولو على حساب مصر. كما نسمع صوتًا معتدلًا ومتوازنًا يعرف أنّ القضية الفلسطينية عادلة وجامعة وبحاجة إلى دعم الجميع، ويكمن مقتلها في الانحياز إلى طرف على حساب الأطراف الأخرى. ولا نبالغ في القول بأنه يتوقف مصير «حماس» ومستقبلها على كيفية حسم الموقف ما بين هذه النزعات والتيارات داخلها.
لن تستطيع «حماس» و»فتح» والفصائل الفلسطينية أن تحافظ على دور فاعل ومستقل يخدم المصلحة الفلسطينية ويسعى لإعادة القضية الفلسطينية إلى الصدارة إذا لم يتوحد الفلسطينيون، فانقسامهم يجعلهم لقمة سائغة، وكرة تتقاذفها أقدام اللاعبين الذين يريد كل منهم استخدام الورقة والأطراف الفلسطينية لصالحه. ولا يمكن أن يتجنب الفلسطينيون هذا المصير الذي سيعني المزيد من تمزقهم وضياع قضيتهم إلا بالوحدة على أساس وطني وديموقراطي وقواسم مشتركة وشراكة سياسية تعطي لكل ذي حق حقه. فالوحدة أقصر طريق، بل الطريق الوحيد للنجاة.