الإنسان بين زمنين (1-2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

يُقال إن القرن العشرين، هو أكثر القرون دموية في التاريخ، (وهي مقولة بحاجة لمراجعة ونقاش عميق)، حيث نشبت في هذا القرن حربان عالميتان مدمرتان، بالإضافة إلى عشرات الحروب الفرعية الأخرى، أُزهقت فيها ملايين الأرواح. 
ومنذ بداياته كانت بوادر العنف والدماء واضحة؛ بريطانيا العظمى، كانت تحتل ثلثي الكوكب، وجنودها في المستعمرات يقترفون أفظع الجرائم والمذابح، دون أن تهتز لأحدهم قصبة؛ في الهند مثلا، فتح الجنود الإنجليز في العام 1919 نيران رشاشاتهم على مسيرة جماهيرية سلمية في ملعب مغلق، وقتلوا الآلاف منهم، ورموهم في البئر.. في الجزائر قتل الجنود الفرنسيون أكثر من سبعين ألف مواطن جزائري في مذابح "سطيف" و"قالمة" و"خراطة" أثناء قمعهم لمظاهرات شعبية تطالب بالاستقلال الوطني سنة 1945.. وفي ليبيا اقترفت القوات الإيطالية الغازية عشرات المذابح بحق القرويين، أبشعها مجرزة الكفرة على يد الجنرال "غراتسياني" سنة 1930..
وأثناء الحرب العالمية الأولى، طرد الجيش التركي الأرمنَ من ديارهم، وأجبرهم على المسير لمئات الأميال في الصحراء، وتم حرمانهم من الغذاء والماء، وهناك روايات عديدة تفيد بارتكاب الجيش حملات تطهير عرقي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأرمن. 
في مدينة نانجين الصينية، جمع الجيش الياباني سنة 1939 سكان المدينة في ساحة عامة، ثم فتح الجنود نيران رشاشاتهم على مدى يوم كامل حتى قتلوا مائتي ألف إنسان.. وبعدها بسنوات قليلة ألقى طيار أميركي قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما اليابانية، وبعدها بأسبوع ألقيت قنبلة ثانية على ناغازاكي، راح ضحية القنبلتين مئات الآلاف من المدنيين..
وفي نفس الحرب ألقى الطيران الأميركي ملايين الأطنان من المتفجرات على مدينتي طوكيو ومانيلا، حتى غرقت شوارعهما بالدماء والجثث المتناثرة.. وعلى مقربة منها اقترف الفرنسيون (1946 - 1954) ومن بعدهم الأميركان (1964 - 1975) أبشع الجرائم والمذابح في فيتنام؛ فقتلوا فيها ما يربو على المليوني إنسان، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين.. ونفس المذابح تكررت في الحرب الكورية (1950 - 1953).
الصين، عانت من المجاعة والحرب الأهلية وحملات التصفية الداخلية أثناء "الثورة الثقافية" التي راح ضحيتها ملايين المواطنين (1968).. وفي أوكرانيا قتل العام 1932 جراء المجاعة أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، لأن السلطات أخذت كل محاصيلها الزراعية لصالح المجهود الحربي.. أما لينينغراد، فبعد ثلاث سنوات من حصارها (1944)، كانت قد خسرت مليوني مواطن من سكانها على يد القوات النازية. 
وفي كمبوديا، قتلت عصابات الخمير الحمر نصف سكان الدولة خلال أربع سنوات (1975 - 1979)، حتى أن قائدهم "بول بوت" أمر بتفريغ العاصمة من سكانها، وإسكانهم قسراً في الأرياف.
عشرات المذابح وحملات الإبادة الجماعية اقترفتها جيوش الدول الاستعمارية والحكومات المستبدة والمنظمات الإرهابية، ولا مجال لذكرها جميعها هنا، ولكن هل كانت تلك الجرائم والممارسات اللاإنسانية تنفَّذ على أيدي الجيوش والحكومات فقط؟ أم أن مواطني تلك الدول كانوا شركاء في الجريمة، بشكل أو بآخر، أو متواطئين معها، أو يمارسون جرائم من نوع آخر؟ ربما بمستويات أكثر بشاعة وأقل إنسانية..
في أميركا مثلا، كان يسود نظام التمييز العنصري، الذي كان ينظر للمواطنين السود على أنهم كائنات زائدة عن الحاجة، فلا يسمح لهم بدخول الجامعات أو المطاعم والأماكن العامة، وإذا صعد أحدهم في الباص فعليه أن يظل واقفا. 
وعندما بدأت الدولة تقلص من إجراءاتها العنصرية تحت ضغط ومطالبات حركات الاحتجاج بقيادة "مارتن لوثر كنغ" (1968)، كانت ردة الفعل العنيفة من قبل المواطنين البيض أنفسهم.
في جنوب إفريقيا، طوال العهد البائس لنظام الفصل العنصري، كانت الأغلبية تخضع لقوانين عنصرية لم يعرف التاريخ مثيلا لبشاعتها؛ إذْ كان السكان محرومين من كافة حقوقهم الطبيعية والمدنية، يعيشون في ظروف تفتقر لأبسط الشروط الإنسانية، وكان يكفي لأي مستوطن أبيض أن يختار أي قطعة أرض ليبني عليها بيته، ثم يتقدم بطلب للسلطات بأن وجود البلدة المجاورة يشكل إزعاجا له ولأطفاله، فتقوم السلطات بترحيل البلدة على بكرة أبيها. 
في أستراليا، كان بعض المنظمات الأهلية مدعوماً من السلطات، تقوم بانتزاع الأطفال عنوة من أسرهم (من السكان الأصليين)، ثم تسكنهم في أديرة خاصة تبعد آلاف الأميال عن بلداتهم الأصلية، حتى لا يعودوا إليها أبدا، وذلك ضمن محاولات إبادة السكان الأصليين (الأبورجينز)، والقضاء على ثقافتهم ولغتهم وذاكرتهم الشعبية، لأن المستعمرين البيض كانوا ينظرون إليهم كمخلوقات بدائية، كما أنشأت بعض المدن الأوروبية حدائق حيوانات، كان يُعرض فيها أناس، تم جلبهم من إفريقيا..
في ألمانيا كانت الجماهير مسحورة بخطابات "هتلر"، وكانت أفكاره النازية من المقدسات.. وأيضا في إيطاليا، كان مجمل الشعب مأخوذا بسحر "موسوليني" وشعاراته الفاشية.. وكذلك الحال في الاتحاد السوفييتي؛ كان الزعيم ستالين يحظى بشعبية جارفة.. وفي أميركا أعاد المواطنون انتخاب "ترومان" الذي تجرأ على استخدام القنبلة الذرية مرتين ضد مدن آهلة بالسكان.. في معظم دول العالم كانت الشعوب متحمسة لفكرة الحرب والثأر والانتقام، ولا تتورع عن دعم حكوماتها لاحتلال الدول الأخرى، وقصف المدن، والتصفيق لزعمائها حتى لو كانوا مستبدين وقتلة..  
في بدايات القرن العشرين كان النظام الدولي قائما على هيمنة كل من بريطانيا وفرنسا، وكانت الحقبة الكولونيالية في ذروتها المتوحشة، حيث كانت أوروبا تنهش من لحوم القارات الأخرى، بلا أي وازع أخلاقي، أو رادع قانوني، والعالم بأسره بدا كما لو أنه في أحد تجليات جنونه؛ حتى المنظمة الدولية التي أنشأتها الدول الكبرى (عصبة الأمم) جعلتها مصممة لخدمة أهدافها التوسعية الإمبريالية. 
وفي النصف الثاني تغير شكل النظام العالمي، وصار مبنيا على أساس التوازن بين القوتين العظميين (أميركا والاتحاد السوفييتي) مع نشوب حرب باردة بينهما، أشعلت عشرات الحروب الساخنة بين وكلائهما وحلفائهما في مختلف القارات. هذه الحرب الباردة أنهكت شعوب العالم بالصراعات، وانتهت بإقصاء السوفييت، وتفرد الأميركان بالهيمنة على العالم، ونشوء نظام دولي جديد أحادي القطبية، تعربد فيه الولايات المتحدة كما يحلو لها..
في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ العالم يتعافى قليلا من أمراضه وجنونه، وأخذ يستعيد شيئاً من عقله..
وهذا موضوعنا التالي..