مآلات السياسة الخاطئة

134331537454825.jpg
حجم الخط

 

في يوم واحد، نُشرت وثيقتان، واحدة من مخرجات وزارة الخارجية الأمريكية، والثانية، مصرية، من مُخرجات كامب ديفيد أيام السادات. الاثنتان تنطلقان في رؤيتيهما، الجديدة والقديمة، من نقطتين: الأولى، أن الشعب الفلسطيني في كل أماكن انتشاره وبكل حقوقه، يمثله الأمن المنبثق عن سلطاته الانتقالية القائمة حالياً والتي كانت مُقترحة قديماً. والنقطة الثانية، أن منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت ملء السمع والبصر، لا وجود لها، ولم يكن ثمة داعٍ، للإشارة اليها في نَصيْ الوثيقتين!

في الإثناء، يتوالى نشر التوقعات الإسرائيلية الإستشرافية لخلافة عباس. فالرجل، عند إسرائيل، في حكم الميت، ومن الطبيعي أن يُروّج المحتلون لأسماء ضالعين في الأمن المُقدّر إسرائيلياً، أو في العمل العام المتناغم مع إسرائيل، كمحتملين  لوراثة عباس وشغل موقع الرئاسة، على أن يتم الحظر على فم من يرسو عليه الخيار،  لكي يكف الرئيس الفلسطيني اللاحق، عن تكرار بعض كلام الرئيس الفلسطيني السابق، لا سيما عن الدولة الفلسطينية المستقلة، على أراضي 67 وعاصمتها القدس مع حل عادل لقضية اللاجئين. فلا لاجئين في الوثيقتين، ولا قدس، ولا سيادة، ولا رئيس مطلوباً للتذكير بهذه الثوابت!

عباس، دأب للأسف، على ترديد العبارات التي تؤكد على الوظيفة الأمنية لسياسة الحكم الفلسطيني، ظناً منه أن السياسة تتأسس على الأمن وليس الأمن هو الذي يتأسس على السياسة. فمن المنطق، إن أبرمت اتفاقات متوازنة والتزم بها الطرفان، يتأسس الأمن ويخدمها، وغير ذلك هو التواطؤ مع الاحتلال!.

 للأسف مرة أخرى، كانت المعادلة المقلوبة والمشوهة، هي نفسها معادلة أوسلو، التي انقلب عليها المحتلون وطُعن أصحابها الفلسطينون في قلوبهم. لكن عباس لم يتزحزح عن اعتماد هذه المعادلة رغم عدم التزام المحتلين بشيء. فلم يأخذ العبرة من انقلاب العدو على أوسلو. وعلى هذا الأساس أيضاً، واصل التأكيد بعبارات أعجب وأغرب، على أن التنسيق الأمني مقدس، وعلى أنه يتوافق مع رئيس الشباك بنسبة 99% وكانت الإدانة جاهزة على لسانه، حتى لأي عمل فردي مقاوم، يضطلع به شاب فلسطيني فاض به الغضب حتى الطعن. وكان الرجل فيما يقول، يؤكد بطريقة غير مباشرة، على أن العنصر الأمني، هو الذي يحسم أمر خلافته، واهماً أن العدو سيبادر في يوم من الأيام، الى الإعلان عن إقراره بالفضل للأمن الفلسطيني المتعاون معه، ويقول لخليفته تفضل، لقد أعطيناك دولة فلسطينية!

الإسرائيليون والأمريكيون، يقيسون الأمور في موضوع خلافة عباس، على قاعدة نكران وجود الشعب الفلسطيني. فليس أمامهم سوى "الشُلّة" إياها، التي تضخمت أوهام كل واحد منها، فلم يعد يقبل أقل من الرئاسة. فالرئيس في أعرافهم، هو الكل في الكل. فما أن يجلس على مقعده، حتى يلتف الشعب حوله، ويبادر هو الى قشط طائفة المنافسين، مثلما قشط عباس طائفة الزملاء، لتتشكل عصبية السلطة، من ذوي "مآثر" في التنسيق الأمني والتعاون الاقتصادي. فكل شيء متاح لفخامة اللاحق، وهذه من سنن الحياة عند "الشُلّة" التي لا يزيد عددها عن ستة أو سبعة اشخاص،  لم يفلحوا في صياغة علاقة متناغمة فيما بينهم، تقوم على الاحترام والثقة المتبادلتين!  

في الشهور الأخيرة، ذهب عباس الى مسافات بعيدة، في الإعراب عن قناعته بالتعاون الأمني. ولأن إسرائيل لا عهد لها ولا ميثاق، فقد أظهرت هي والأمريكيين تبرماً من الشق السياسي من كلامه، فأصبح الموقف، يعني موضوعياً أنهم يتعجلون موته بعد ان أدى دوره، وآن الأوان، لأن تربح إسرائيل بعده رئيساً للسلطة الفلسطينية ذا منحى أمني خالص يلائمها وتلائمه.

ما دام الطرفين الأمريكي والإسرائيلي، ينظران الى عباس كميت، ويعتبران أن الحي المؤهل من بعده، هو أي صاحب تجربة أمنية مواتية، فلا بأس من الترويج له، باعتبارة قوياً وذا نفوذ. فالشعب الفلسطيني في ناظرهم مقدور عليه. مسطرة القياس هنا، تستبعد الجانب الإجتماعي للسياسة وتتجاهل الشعب، ولا تتذكر منظمة التحرير الفلسطينية!

كل شيء ينهار الآن. كان الأوجب على عباس، لكي يربح شيئاً من حكم التاريخ، أن يترجم معارضته اللفظية للأمريكيين، الى خطوات عملية، يمكن أن تدفعه الى الإبقاء على السلطة والمغادرة، الى أرض فلسطينية متاحة،  وأن يترك لهم الخيار إما أن يحلوا السلطة في الضفة، ويتحملوا مسؤولية الاحتلال المباشر وحدهم فتنطلق كل خيول المقاومة، أو أن يأخذوا خيار بقاء السلطة، في حجم البلديات الوطنية في السبعينيات، دون أن تتحمل الحركة الوطنية الفلسطينية مسؤولية مطاردة المقاومة. كان الأوجب،  أن يغادر هو شخصياً، وأن يعمل على إعادة المبادرة الى الشعب، واعادة الاعتبار لحركة فتح واتاحة الفرصة للفتحاويين لاستنهاضها بدل شرذمتها، والذهاب الى مصالحة وطنية تُبقي على سلاح الدفاع عن النفس في غزة، واقتصار حركته بين غزة والخارج، والتوصل الى استراتيجية عمل وطني واحدة، ضامنة لعدم الانزلاق الى الإثنتين: عار التماثل الأمني مع الاحتلال، وغباء التشدد اللفظي والحكم الذي يشتغل بالذرائعية السياسية للدين!

حماس لن تتـأثر بقطع رواتب الموالين لكي يهز عرشها ولا بمحاولة خنق غزة، وإنما تتأثر بالتفاف الجماهير غير المحرومة من الخبز والخدمات، حول مشروع وطني ديموقراطي، لمجابهة كل التحديات. لكن الرجل اختار للأسف، طريق التدمير، واهماً أن العدو والأمريكيين سيحترمونه ويحافظون عليه حتى النهاية. وها هو الآن، يواجه مآلات السياسة الخاطئة، ولن يصلح العطار ما أوقعه عباس في  الدهر الفلسطيني، ولا قيمة لخطاب بليغ،  يقرأه من الورق، من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة!