أثرياء، ولكنْ إنسانيون

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

ورثَ "تولستوي" عن أهله أراضي شاسعة، وأملاكاً لا حصر لها؛ فنشأ إقطاعياً، وعاش شبابه سعيداً مترفاً.. وذات مساء، في لحظة فارقة، وقف يتأمل، ويسأل نفسه بصدق: لماذا أملك كل هذي الأراضي وحدي؟ لمَ أنام شبعاناً، ويجوع الفلاحون؟ لمَ يتعب غيري لزراعة أرضي، لأهنأ وحدي بأطيب الطعام؟ في تلك اللحظة الباهرة، تفجر الإنسان في داخله، وخرج الفنان المرهف، ليهزم الإقطاعي الجشع.. فقرر أن يمنح كل أرضه وأملاكه للفلاحين.. ثم خرج في تلك الليلة الباردة من قصره، بثياب خشنة، وأمضى ما بقي من حياته مثل كل الفقراء، حتى مات ميتة متواضعة.. لعلها كانت أجمل لحظة في حياته. 
لنقل إنّ "تولستوي" كان روائياً عظيماً، وأديباً شفافاً، عميق الإنسانية.. وهذا ما دفعه لاتخاذ قراره الشجاع.. فهل وحدهم الفنانون والأدباء من يمتلكون الحس الإنساني النبيل؟ هل للرأسمالية وجه وحيد: بشع، ومتوحش دائماً؟ هل الأثرياء دوماً جشعون، ولا يهمهم شيئاً سوى تكديس الثروات؟ 
بالرغم من السمعة السيئة للأثرياء والبرجوازيين، والتي استحقوها بسبب سلوكهم اللاإنساني؛ إلا أن استثناءات كثيرة ومتزايدة بدأت تظهر في العالم. 
بيل غيتس أغنى رجل في العالم، تبرع وزوجته ميليندا منذ التسعينيات حتى الآن بنحو 35 مليار دولار لعدة منظمات خيرية، ورغم ثرائهما الفاحش؛ إلا أنهما لا يعتزمان ترك أي مبلغ لأبنائهما الثلاثة، الذين عبروا عن تفهمهم وموافقتهم على التبرع بكامل الثروة للأعمال الخيرية، بل إنهم فخورون بهذا القرار الذي اتخذه الوالدان بهدف محاربة الفقر في العالم.
كما قرر ثاني أغنى رجل في العالم وورن بافيت صاحب مجموعة "بيركشير" التبرع بِـ 99% من ثروته البالغة 47 مليار دولار، كما قرر بالشراكة مع غيتس إطلاق أضخم حملة تبرعات في التاريخ، فأقنعوا أثرياء العالم بالتبرع بثرواتهم لصالح منظمات خيرية، في البداية تعهد 40 مليارديراً بالتبرع بنصف ثرواتهم لجمعيات خيرية، تبعهم 158 من أغنى أغنياء العالم؛ فقرروا أيضا التبرع على الأقل بنصف ثرواتهم لأعمال الخير، منهم "تيد ترنر" مؤسس شبكة "سي إن إن"، وعمدة نيويورك "مايكل بلومبرغ"، و"غوردن موور" صاحب شركة "إنتل"، و"ألي بروود" صاحب شركة "صن أميركا".
كما قرر مؤسس الفيسبوك "مارك زوكربيرغ" وزوجته التخلي عن 99% من ثروتهما (45 مليار دولار) لصالح مؤسسة خيرية، وذلك احتفاء بولادة طفلتهما "ماكس". 
الملياردير الصيني "لي شينج" تبرع بعشرة مليارات دولار لمشاريع التعليم والصحة، والأسترالي "أندرو فورست"، تبرع بـ 300 مليون دولار، لقضايا الصحة والتعليم ومكافحة الرق الحديث.
وفي تقرير أعده معهد «هدسون للازدهار العالمي» عن ظاهرة التبرعات الضخمة التي أخذت تنتشر بين الأثرياء الأميركيين، ذكر أن تبرعات القطاع الخاص الأميركي للقضايا الإنسانية العالمية تجاوزت السبعين مليار دولار، أي أربعة أضعاف المبلغ الذي تنفقه الحكومة الأميركية على المساعدات الرسمية للتنمية. 
الجدير بالذكر أن هذا السخاء في التبرعات لا يذهب مباشرة للمحتاجين على شكل صدقات، بل هو تبرع لصالح منظمات تسعى لحل جذور المشكلة وليس نتائجها؛ مثل دعم مؤسسات تعنى بتعليم أبناء الفقراء بدلاً من منح أسرهم صدقة، أو دعم مشاريع إنتاجية بدلاً من توزيع الطعام، أو إقامة مشروع لمحاربة الملاريا، كما حصل في موزمبيق مثلاً، بدلاً من توزيع الأدوية، وهو ما يسميه الاقتصاديون "الكرم الذكي"، الذي سيصبح صناعة كاملة مع اتساع سلطة وثروة القطاع الخاص حول العالم، واتساع ظاهرة التبرعات.  
ولا تقتصر التبرعات على أصحاب المليارات، فالمشاهير أيضاً يتبرعون؛ لعل أشهرهم الممثلة "إنجلينا جولي" التي تداوم على زيارة مخيمات اللاجئين، وتتبرع لهم بالملايين سنوياً، والإعلامية "أوبرا وينفري" تبرعت بِـ ‬40 مليون دولار، وأيضا "جورج كلوني"، "ديكابريو"، "شاكيرا"، "ليدي غاغا".. وغيرهم كثير..

ماذا بشأن الأثرياء العرب؟
قرر الملياردير السعودي "سليمان الراجحي" التخلي عن أمواله وهو على قيد الحياة (7 مليارات دولار)، لدعم مساعي التعليم ومبادرات القضاء على الجوع في السعودية. 
كما ينوي الأمير الوليد بن طلال التبرع بثروته لأعمال الخير؛ ليكون الثري العربي الوحيد الذي ينضم لمبادرة "بفيت/غيتس"، ويتعهد بالتبرع بثروته بعد وفاته.
الإماراتي ماجد الفطيم، تقدر ثروته بستة مليارات دولار، تبرع بنحو 23 مليون دولار لبرامج الرعاية الصحية، وإفطار الصائمين وبناء مساكن للمحتاجين. 
أما عبد الله الغرير (6.4 مليار دولار)، فتبرع بِـ1.1 مليار دولار لتعليم شبان إماراتيين وعرب محتاجين. 
المصري "نجيب ساويرس" (3.1 مليار دولار) تبرع بمبلغ 50 مليون دولار لبناء مدارس وتطوير التعليم في مصر. 
وغيرهم كثيرون تبرعوا بمبالغ معقولة لأعمال خيرية.. عدا ذلك، تبقَى المقارنة بين تبرعات الأثرياء الأجانب والأثرياء العرب مخجلة، حيث ما زالت تبرعاتهم أقل بكثير مما ينبغي.. كما أنّ الأغلبية منهم ما زالت مقترة، وسلبية، ولا تفكر حتى بالتبرع، وإذا حصل وتبرع أحدهم بمبالغ بسيطة، فتكون لأغراض شخصية.
الأثرياء الفلسطينيون عموماً أداؤهم غير مقبول، فلو تضافرت جهودهم بشكل إيجابي وصحيح لتمكنّا من بناء دولة مزدهرة بالمعايير الحديثة، ومع ذلك هنالك استثناءات كثيرة، وبعضهم قدم تبرعات سخية وكبيرة، وتستحق التقدير.
ولأن التنازل عن الثروة، أو جزء منها مسألة ليست هينة؛ فقد أثارت ظاهرة التبرعات العالمية الكثير من الجدل؛ فالبعض يقول إنها لأغراض الدعاية، أو لكسب انتخابات، أو للتخفف من الضرائب، أو من أجل الشهرة، أو لإخفاء الوجه الآخر (القبيح) لهؤلاء الأثرياء، أو للتغطية على أساليب كسبهم غير المشروعة، وكيفية جمعهم لثرواتهم الطائلة.. وأرى أن كل هذا يندرج في إطار الكشف عن النوايا، والتشكيك.. وحتى لو كان ذلك صحيحاً، أو بعضه، فيجب التركيز على الوجه الإيجابي لظاهرة التبرعات.. 
بعض أنواع التبرع لا يمكن تقييمها مادياً، كالتبرع بالدم، أو بأحد أعضاء الجسم لإنقاذ حياة إنسان، أو التبرع بعد الوفاة بأعضاء الجسم لصالح مرضى ومقعدين، وهناك المتبرعون بوقتهم من أجل الصالح العام، وفي العمل التطوعي، أو لحماية البيئة، أو لإسعاف الجرحى واللاجئين. وعندما يتبرع موظف بسيط أو إنسان فقير بعشرة دولارات، أو عندما يتبرع طفل بمصروفه الشخصي، فهذه تضاهي بقيمتها المعنوية المليارات التي تبرع بها الأثرياء.
العطاء الإنساني الخيري هو الشق المنير في حياة البشرية، الذي يمنح الأمل بعالم أكثر إشراقاً.