السابعة مساءً، وأيدٍ تلوِّح منذرةً بساعة الرحيل، وكلٌّ يسير بخطىً مثقلة، يبحثون عن أشيائهم الضائعة، وكان عليهم أن يشدوا خطواتهم، فالشمس التي كانت تنثر أضواءها على هذه الحدود قد توارت خجلًا ووجعًا ورحلت قبل ساعةٍ تمامًا، بعدما شهدت معركةً ضروس، ما كانت لتضع أوزارها إلى هذه اللحظة.
كان يجب أن يرحلوا جميعًا في هذه الساعة، إلَا أن أحد المسعفات كانت رافضةً الرحيل، وتبحث في هذا التيه بطريقة مجنونة عن أخيها المفقود، تصرخ بأعلى صوتها: "ترجعوش عالبيت لسة مش لاقيين ناصر".
بدأت المسعفة دعاء مصبح تسأل كل من تراه في طريقها عن أخيها ناصر، وتجيبهم عن مواصفاته، وتشرح لهم شكل حقيبة الإسعاف التي كان يحملها ناصر، وتذكرهم أنه كان يشاركها إسعاف الجرحى في كل جمعة.
كانت تظنُّ دعاء أن هذا الوصف سيكون كافيًا أمام العائدين من الموت، ليتذكروا أخيها، وما كان من ليأسها إلا أن ترفع هاتفها، لتخبر أمها أنهم ما وجدوا ناصر، فهل ستعود للبيت دونه؟! هل ستعود دون ناصر؟!
شهيد مجهول
صوتٌ واحد قطع كل ضجيج الأصوات الراحلة، صوتٌ بأمل أخير، وأيُّ أملٍ هذا؟!
" في شهيد مجهول في الأوروبي، شوفي يمكن يكون ناصر"
هذا الصوت الذي استسلمت له دعاء، وطلبت أن ترى صورة الشهيد المجهول، رفعت عينيها، ومرَّت الدقيقة بثوانٍ ثقال، لتصرخ بصوتها: "ناصر، ناصر يمَّا شهيد".
ناصر ابن الـ12 عامًا، صاحب الضحكة الملائكية، والصوت القوي الذي كان يصدح به في خطب الجمعة، لتعرفه كل بلدة عبسان، من كبيرها إلى صغيرها، بأصغر خطيب في خان يونس، قد تحول اسمه من ناصر عزمي مصبح إلى الشهيد المجهول رقم "1".
اعتاد ناصر كل جمعة أن يشارك في مسيرات العودة السلمية على حدود خانيونس، حاملًا على كتفيه حقيبة الإسعافات الأولية، ويساعد أختاه المسعفتين، تارةً يناولهن أدواتهن الطبية، وتارةً يوقف نزيف أحد المصابين في اللحظة التي لا يتواجد أحدٌ مسعف في المكان سوى ناصر "المسعف الصغير".
كل الجمعات كانت متاحة أمامه، إلا الجمعة الأخيرة " جمعة انتفاضة الأقصى" كل شيءٍ كان مختلفًا، فهذه الجمعة الأولى التي ترفض أم ناصر ذهابه إلى الحدود رفضًا قاطعًا.
فكلُّ شيء في ذاك الصباح كان باهتًا، وانقباضة قلبٍ مؤلمة كانت تنخر قلب أمه، كأن شيئًا سيحدث اليوم، شيءٌ يفوق وصفه بالحروف، وما خاب إحساس أي أمٍّ على هذه البقيعة، إذا انقبض قلبها خوفًا!!
الثالثة عصرًا، جاءها ناصر بحلةٍ بهية، يتودَّدُها ويقبِّل يديها، لتسمح له بالخروج، وما كانت لتوافق على كل هذه التوددات والإغراءات التي كان يقدمها بين يديها، لكنها لم تنجح، فقد كانت في توقن في داخلها أن ناصر قد حمل في قلبه وطنًا أكبر من عمره الصغير.
"نفسي أشوف شو ورا السلك؟" هذا السؤال الذي كان يطرحه ناصر على أمه كل صباح جمعة، إشعارًا منه بطريقة ذكية، على أنه يبحث عن اللحظة التي يعرف بها كل الأسرار التي منعها هذا السلك عن عينيه.
" في جنتنا يمَّا حيجي يوم وتشوفها يا ناصر" هذا الجواب الذي كان يسمعه من أمه في كل مرة، ويحوِّله إلى كومةٍ من الأحلام وهو يكتب موضوع التعبير عن حي درويش في مدينته يافا.
قبلةٌ طويلة، وحضنٌ واسع، هو آخر ما تركه ناصر لأمه، وخرج سريعًا ليلحق أخواته، كأنه أراد أن يبشرهن بموافقة أمه على خروجه.
"خرج ناصر وقتها وكنتُ في داخلي أكذِّب كل الأصوات، كنت أستغفر من وسوسة الشيطان، أن ألحق به ليرجع ثانية لحضني" تقول أمه، وعينها على صورة طفلها الشهيد المعلَّقة على الباب، كانت تخاطبه، قبل أن تخاطبنا، إلى أن أنهت حديثها: " كان نفسي احكيلوا ارجع لحضني يمَّا، لكن.. إنا لله وإنا إليه راجعون".
قبل عزومة الغداء
محمد أبو عامر، صديق ناصر الذي شهدت عليهما كل بلدة عبسان، وهما يركبان الدراجة كلَّ صباح ليذهبا إلى المدرسة، وعرفهما الجميع بالتوأم المشترك، فكلُّ الذكريات التي جمعتهما بهذه السن كانت حصيلة الوجع الذي يرويه لنا محمد، بدءًا من صوت حبيبه ناصر وهو يتلوى عليهم القرآن كلَّ صباح، في الإذاعة المدرسية، إلى الأسرار التي كان يرسمها وهو يتحدث عن حلمه الكبير، حلم " العودة".
لم يتمالك محمد دموعه، فحشرجة صوته تداخلت مع حروفه، يحاول جاهدًا أن يخبرنا عن لحظاته مع صديقه الشهيد، يحدِّثنا عن اللحظات التي حفظ بها ناصر كتاب الله، ويقول: " والله عملناله أحلى زفة وقتها، ووعدته بعزومة مطعم بس راح ولسة ما وفيتش وعدي، والله راح بسرعة".
رحل ناصر وترك خلفه كل الأشياء التي رسمها، تركها لتكون أثرًا يكتبه كلُّ من عرف ناصر من مدرسة المهاجرين الشرعية، وكلُّ من افتخر بصحبته وخطاه التي كان يغبطها أصحابه، ليكونوا مثل ناصر، حافظين لكتاب الله، متفوقين في دراستهم، محبوبين من معلميهم.
لم يكن محمد ليصدق خبرًا كهذا، فعبارته " مش مصدق ناصر راح مش مصدق حبيبي سابني" كان يحاول أن يفعل أي شيء يعلٌّق أمنيته أن ناصر البطل ما زال حيًا.
" بدنا نعلق إله صور بكل مكان، عشان ما نحس إنه استشهد، ناصر بده يعيش بقلوبنا".
هذا ما استنزفه محمد وهو يتحدث عن فقيده، فأصدقاء الشهيد فقدهم مختلف، هم يفقدون الحبيب والصديق والرفيق، ويعيشون على فتات الذكريات، على آخر ضحكة، وآخر رسالة، وآخر لمسةٍ عطَّرها المسك الراحل من صديقه الشهيد.
لم يرحل ناصر عن أهله وأصدقائه فقط، فمعلم العلوم في مدرسته، الأستاذ كمال النجار، تحدَّث عن فقد طالبٍ عزيز، فهو لا يتخيل أبدًا كيف سيبدأ حصة العلوم التي كان يفضلها ناصر؟!
ولا يعرف إن كان سيقوَى على تشريح الأرنب الذي أحضره ناصر في آخر حصة، لدرس التشريح، عندما طلب من طلاب الفصل، أن يحضروا أرنبًا لدرس التشريح، فتبرع ناصر بالأرنب عنه وعن كل زملائه، وكان طلبه حثيثًا, وشوقه كبيرًا للحصة التي سيبدأ المعلم بتعليمهم درس التشريح.
ما كانت لتبكيه حروفٌ مجردة أو صورٌ معلقة، اليوم كل خان يونس تبكي ناصر، وكل شارعٍ كان يمرُّه ويطرق السلام على ساكنيه، اليوم أصبحت الإذاعة المدرسية يتيمة دون صوت ناصر، فرصاصةٌ واحدة أفتكت كلُّ أحلامه قبل أن يرى ما وراء السلك، قبل أن يرى حي الرشيد، ويرتدي زيه الأبيض وهو يحقق حلم دراسته الطب في يافا.
تبكيه آخر قطعة حلوى تقاسمها مع محمد، وتركها ملفوفةً ليكملها بعد عودته.
لم تكتمل قطعة الحلوى، ولم يحضر ناصر درس التشريح اليوم، فناصر الآن كحمامٍ يحلِّق في السماء، ونحن هنا، نبكي أحلامه المتناثرة، ونتوسل الشمس أن تشرق بنورٍ يشبه نور الناصر.