هاني عوكل 31 تموز 2015
مرةً أُخرى يبادر ستيفان دي مستورا المبعوث الدولي الخاص إلى سورية بدعوة فرقاء النزاع السوري للمشاركة في مجموعات عمل تناقش عدداً من القضايا المهمة المتصلة بالأزمة السورية التي تدخل عامها الخامس بدون أي أفق سياسي ينهي هذا النزاع الصعب.
دي مستورا الذي ظل عاماً كاملاً وهو يحاول إيجاد مخارج سياسية للأزمة السورية، ما يزال صامداً أمام نزاع معقد ومحكوم بالفشل من كثرة الدول المؤثرة فيه، فضلاً عن تعقيدات أخرى لها علاقة بطبيعة النزاع الذي أخذ منحنيات مختلفة تحمل عناوين كثيرة.
الرجل قبل أن يقدم تقريره حول سورية إلى مجلس الأمن الدولي، سبق وأن عمل بدعوة من بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، على إطلاق مشاورات بين الفرقاء السوريين وغير السوريين، بهدف إيجاد نقاط مشتركة لتطبيق بيان جنيف 2012.
مشاورات دي مستورا التي انطلقت في الخامس من أيار الماضي، أوصلته إلى دول كثيرة، حيث طار إلى روسيا وإيران وسورية وتركيا والأردن، ومؤخراً التقى بالرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم، فضلاً عن مجموعات من المعارضة السورية المعتدلة.
هذه المشاورات كانت تستهدف جس النبض حول احتمال الاتفاق بين فرقاء النزاع السوري حول القضايا الدنيا، وعلى أمل أن تشكل رسائل تطمينية مستتبعة باتفاقات أخرى من أجل تقريب وجهات النظر بين هؤلاء، تمهيداً للمرحلة الأهم المتعلقة بتشكيل هيئة حكم انتقالية تمهد لإنهاء النزاع السوري.
أول ما اقترحه دي مستورا كان يتصل بتجميد النزاع في مدينة حلب الواقعة شمال سورية، يتبع ذلك نقاش حول إيصال المساعدات الإنسانية للسوريين المنكوبين وتحييدهم في النزاع بين القوات الحكومية من جهة، ومختلف أنواع المعارضة السورية من جهة أُخرى.
هذا الاقتراح فشل وفشلت معه كافة محاولات دي مستورا لتطويق الأزمة السورية، خصوصاً بعد تمكن تنظيم «داعش» الإرهابي من تحقيق مكاسب عسكرية سمحت له بالسيطرة على أراضٍ سورية كثيرة، وبالتالي اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد الموضوع يتعلق بنزاع بين الحكومة السورية والمعارضة المعتدلة، بل دخلت في هذه المعادلة قصة أولوية محاربة الإرهاب الذي يمثله «داعش».
تعقيد مهمة دي مستورا جاء من تباين المواقف بين أطراف النزاع السوري، يشمل ذلك الاختلاف الكبير بين القوى الكبرى المنخرطة في هذا النزاع، إذ مثلاً تبدل موقف الحكومة السورية من اهتمام بالعملية السياسية، إلى ضرورة محاربة «داعش» وإعطاء هذا الموضوع الأولوية القصوى.
وهذا الموقف كان واضحاً خلال زيارة المبعوث الدولي الخاص إلى سورية للعاصمة دمشق، حين أُبلغ من الخارجية السورية بأن الأولوية ينبغي أن تكون لمحاربة الإرهاب، وأنه لا معنى لأي حل سياسي طالما وأنه لم يعالج الإرهاب.
وترى الحكومة السورية أن فكرة الذهاب إلى مؤتمر دولي جديد غير مجدية، في ظل توجيه الاهتمام الأميركي إلى مكافحة تنظيم «داعش» ورفضها التام إشراك النظام السوري والتنسيق والتعاون معه لضرب ذلك التنظيم المتطرف.
بعد كل ذلك، لم يجد دي مستورا من بد إلا باقتراح دعوة السوريين للمناقشة في أربع قضايا، الأولى تبدأ بموضوع الحماية والأمن ويشمل ذلك موضوع المعتقلين ووصول المساعدات، وثانياً القضايا السياسية والدستورية وكل ما يتعلق بالهيئة الحاكمة الانتقالية والانتخابات.
القضية الثالثة تبحث في الشؤون العسكرية والأمنية والهدف منها مكافحة الإرهاب ووقف إطلاق النار ودمج القوات، وأخيراً ضمان ثبات المؤسسات العامة وإعادة الإعمار والتنمية، وهذا الاقتراح الذي لقي قبولاً من بان كي مون يبدو أنه غير قابل للتحقق على أرض الواقع.
غير قابل للتحقق، لأن هناك دولاً كثيرة لا تزال تدعم المعارضة وخصوصاً المعتدلة منها، وهذا الدعم لا يأتي من فراغ، إلا في كون هؤلاء متفقين على ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة شرطاً لإنجاح المسار السياسي.
ثم إن الدول الكبرى المنخرطة في النزاع السوري، باتت متفقة على أن الأولوية تستدعي معالجة موضوع «داعش» الذي بات يهدد العالم بأسره، لكن الخلاف يأتي من تمسك الولايات المتحدة من عدم التعامل مع النظام السوري لضرب «داعش»، بينما ترى روسيا أن تجنب التنسيق مع الحكومة السورية لن يخدم فكرة القضاء على هذا التنظيم، الأمر الذي سيطيل من أمد النزاع.
أضف إلى ذلك أن الأميركان ومعهم الأوروبيون حين يقولون إن القضاء على «داعش» سيأخذ الكثير من الوقت، ملمحين بذلك إلى سنوات قد تتجاوز الثلاث، فلعل ذلك يخدم فكرة أن العملية السياسية غائبة عن أذهانهم.
ويبدو أيضاً من التداعيات الأخيرة وتأثر تركيا بموجة الإرهاب «الداعشي»، ستقود إلى زيادة تعقيد الملف السوري، خصوصاً وأن أنقرة كانت قد ألمحت في أكثر من مناسبة إلى ضرورة إقامة مناطق آمنة داخل الأراضي السورية.
اليوم هناك توجه تركي جدي للسعي من أجل إقامة مناطق آمنة في سورية، لكن هذه الفكرة ستواجه الكثير من المطبات، في إطار التحفظ الأوروبي على إقامة مثل هذه المناطق، فضلاً عن عدم السماح الروسي بتدخل تركيا في الشؤون السورية، ناهيكم عن موقف الحكومة السورية من هذا التوجه التركي.
القصد من كل ذلك، أن الملف السوري يواجه تعقيداً بعد آخر وليس في الطريق إلى الحل، ومبادرة دي مستورا لن تحقق نتائج إيجابية، اللهم أنه يسعى انطلاقاً من موقعه لإيجاد أفكار قد تقود إلى تحقيق اختراقات ولو طفيفة في الملف السوري.
المحصلة أن هناك من الدول الكبرى من هو مستفيد من استمرار هذه النزاعات التي من شأنها أن تقود في النهاية إلى إبراز قوته وتأكيد حضوره الدولي، وفرض سيطرته وإشباع حاجاته الاقتصادية التي تتغذى على النزاعات وما يوفره من أسلحة وغيرها مقابل المال.
والنتيجة أن الغرب يريد إخضاع سورية لمنطق الدول الفاشلة أو الدول المريضة التي يسعى لمص دمها وإصابتها بالشلل الكلي ومن ثم التبعية، والمشكلة أن أصحاب النزاع يدركون أنهم مجرد أدوات بيد الكبار الذين يتنافسون بين بعضهم البعض بواسطة الصغار.
دي مستورا من المرجح أنه سيفشل في مهمته، ليس لأنه سيئ أو عاجز عن القيام بوظيفته، ولكن لأن الدول الكبرى لا تريد له أن يقوم بدوره كما يجب، كما فعلت حين أفشلت مهمات كل من سبقوه في هذا المنصب المستحيل.