أسامة السلوادي

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في مثل هذا اليوم من العام 2006، أصيب المصوّر الفلسطيني "أسامة السلوادي"، برصاصة طائشة في عموده الفقري، تسببت له بشلل نصفي في أطرافه السفلية.. ورغم شعوره بالألم والمرارة على مصابه، وعلى ضعف القانون في معاقبة الجناة؛ فإنه لم يستسلم لغضبه الداخلي، ولا لضعفه الجسدي، ولم يرفع الراية البيضاء؛ فقرر أن يجعل من مأساته حافزاً جديداً للانطلاقة، من على كرسيه المتحرك، أصرّ أن يكمل مسيرته التي نشأ على حبّها؛ فجعل من "التصوير" مشروعاً ثقافياً متكاملاً، رصد من خلاله ووثق مئات الصور، من الطبيعة، ومن حياة الناس اليومية، وللأزهار والطيور والبيوت العتيقة.. حتى استحق لقب "موثّق التراث الفلسطيني".
رغم غياب الدعم المالي، ومع أنّ شوارع المدن الفلسطينية غير مؤهلة لذوي الاحتياجات الخاصة، ومع علمنا أن مهنة التصوير تتطلب حركة، وتنُقّلاً في المناطق الوعرة لالتقاط الصور الفريدة والمميزة؛ إلا أنّ السلوادي التقط أجمل الصور، وأهمها، وأنجز أكثر من عشرة كتب، تنوعت مواضيعها وتعددت.. كتب عن حصار الراحل أبو عمار، وعن القدس، وعن المرأة، وفي السياسة.. لكنه ركز على موضوع التراث الشعبي الفلسطيني، ونقله إلى العالم بكل مهنية واحتراف، عبر مشروعه "العودة إلى الجذور"، الذي أصدر من خلاله مجموعة من الكتب المصورة، حملت في ثناياها الكثير عن جمال فلسطين، وتراثها الخالد، تنقل في كتبه بين مواضيع الأزياء الفلكلورية، الحلي والمجوهرات الفلسطينية، المأكولات التراثية، المواسم الزراعية، الحرف اليدوية التقليدية، الطبيعة والبيئة الفلسطينية، الألعاب الشعبية.. ومن بين كتبه: زينة الكنعانيات، ملكات الحرير، بوح الحجار، أرض الورد، الحصار، الختيار.
وبالطبع، ليس السلوادي وحده، من تغلب على إعاقته. الملايين حول العالم فعلوا ذلك، ولا مجال لذكر الكثير من الأمثلة، مع اعتزازنا وتقديرنا لكل إنسان تجاوز محنته، وقهر مرضه أو إعاقته، وتحدى الصعاب؛ لكن ذِكر مثال أو أكثر، إنما بهدف تحفيز الطاقة الإيجابية للآخرين، واستلهام التجربة.
الأسترالي "نيكولاس فوجيسيك"، أشهر متحدي الإعاقة في العالم، وُلد بلا أطراف، إلا أنه حصل على ثلاث شهادات جامعية، وصار بارعاً في السباحة وكرة القدم والغولف وركوب الخيل.. ودائماً يتحدث بكل ثقة، وبريق الأمل لا يفارق عينيه.. الصبية الفلسطينية "ياسمين النجار"، تسلقت أعلى قمة أفريقية "جبل كليمنجارو" بساقٍ واحدة.
هوميروس، أبو العلاء المعري، بشار بن برد، طه حسين، عمار الشريعي.. كانوا فاقدي البصر.. الرافعي، بيتهوفن، أديسون.. كانوا فاقدي حاسة السمع. العالم البريطاني ستيفن هوكنج الحائز على أعلى منصب أكاديمي في الفيزياء والفلك، كان مشلولاً بشكل كلي، لا يتحرك منه سوى عينيه.. وكذلك العالم الفرنسي لويس باستور كان مشلولاً.. القائد الفلسطيني أحمد ياسين، كان أيضاً مشلولاً. 
ولا أقصد هنا أنّ على الأشخاص ذوي الإعاقة أن يكونوا عظماء ومشاهير.. يكفيهم فخراً أنهم تحدوا إعاقتهم، وتمسكوا بأهداب الحياة بكل شغف. وحتى لو كانوا عاديين بمستوى حياتهم وبقدراتهم ومواهبهم، فحسبهم رضاهم عن أنفسهم، وتقبلهم للحياة بكل صعابها وتحدياتها.. وهم بذلك يشكلون مصدر إلهام للآخرين. 
حددت الأمم المتحدة يوم 3 كانون الأول من كل عام "يوماً عالمياً لذوي الاحتياجات الخاصة"، بهدف تسليط الضوء على قضاياهم ومعاناتهم، وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن 15% من سكان العالم لديهم نوع من الإعاقة، أي أن هناك ما يفوق مليار إنسان يعاني الإعاقة. دول العالم الثالث (خاصة التي ابتليت بالحروب) لديها أعلى معدلات لانتشار الإعاقة، وهؤلاء غالباً لا يحصلون على الرعاية الصحية اللازمة، وهم أكثر عرضة للبطالة والفقر، والأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة لا يحصلون على تعليم جيد، وللأسف معظم المدن والمرافق (والقوانين) غير مصممة لمراعاة احتياجاتهم الخاصة. 
وللأسف، ما زلنا نحمل في عقلنا الباطن مفهوماً سلبياً عن الإعاقة، وأحياناً نعامل ذوي الإعاقة بشكل خاطئ، وجارح.. وهذا يدعونا لمراجعة المثل السائد "العقل السليم في الجسم السليم"؛ فالإنسان ليس بقوة جسده، ولا بمهارة أطرافه، ولا بأملاكه.. وإنما بفكره وعمله وقيمه.. تلك هي التي تحدد قيمته، وتعطيه معنى لوجوده.. وفي واقع الأمر كلٌ منّا لديه إعاقة ما؛ فالإعاقة ليست في الجسد والأطراف؛ قد تكون الإعاقة الحقيقية في مستوى الإحساس بالإنسانية، أو في تحجر الفكر، أو تبلد المشاعر، أو بالأنانية وانعدام الإحساس بالمسؤولية. 
أحياناً يكون الخوف أكبر إعاقة؛ الخوف من المجتمع، ومن السلطة، ومن التغيير، ومن المجهول.. الخوف يكبل العقل، ويمنعه من التقدم، ويجعل من الفرد مهادناً، منساقاً مع القطيع.
وأحيانا تصبح الكراهية هي الإعاقة التي تحول بيننا وبين إنسانيتنا.. التطرف والتعصب أخطر إعاقة، تجعل المجتمعات تغرق في مستنقعات الطائفية والقبلية.. بل إن كل المشاعر السلبية تغدو إعاقة، تعيقنا من التحرر والتقدم والانعتاق من شرنقة الجهل، وتبقينا ندور في حلقات مفرغة من الفشل، وتغمرنا بمشاعر اليأس والإحباط. 
تقديرنا المتوهم لأنفسنا، ولقدراتنا، لدرجة التورم، من أهم الإعاقات التي تعمينا عن رؤية الأسباب الحقيقية للفشل والإخفاق.. فنبدأ بإلقاء اللوم على الآخرين، وتحميل المسؤولين والسلطات مسؤولية الفقر والعوز والفشل، وكل أوضاعنا المزرية.. بدلاً من لوم الذات، وتحمل المسؤولية بشجاعة وصدق.. ومن هؤلاء من يهاجر إلى إحدى البلدان المتقدمة، ظاناً أنه سيحرز النجاح هناك، وهو لا يدري أنه حمل معه كل أسباب الفشل. 
الأشخاص ذوو الإعاقة، الذين ذكرت بعض أسمائهم، لم ينتظروا مساعدة من أحد، ولم يتحولوا إلى شكائين بكائين.. فقط امتلكوا الإرادة والتصميم.. واعتمدوا على أنفسهم.