إعلام عربي متكلّس وإعلام صهيوني نشيط

929551539873121.jpg
حجم الخط

 

الإعلام هو أحد الوسائل الرئيسية للحياة، هو الموصل الرئيسي للأفكار التي يحملها حزب، حركة، تنظيم، دولة إلى الآخرين، بغض النظر عن صوابية الفكرة أو خطئها. الصحافي بن برادلي رئيس تحرير صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية الأسبق، هو الذي كشف فضيحة «ووترغيت»، التي أطاحت بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، وهو في أوجه.

أذكر جملة قرأتها لصانع ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا لينين، تعكس تصوره لجريدة حزبه الشيوعي «البرافدا» التي كانت امتدادا لمطبوعة الحزب في مرحلة العمل السري «الآيسكرا» فقد تصور هذا الدور قائلا: «على هذه الجريدة أن تعبئ جيشا من المناضلين المجربين القادرين على نشر أهداف الحزب بين الجماهير». أما عن دقة نشر المقالة في وقتها من دون تقديم زمني أو تأخير، فقد قرأت عنه الحادثة التالية، في إحدى المرات كتب مقالته اليومية لـ»البرافدا»، لسبب تقني تعطّل طبعها ذات مساء، جاءه رئيس تحريرها معتذرا، وأكد له قائلا: سننشرها في اليوم التالي. أجابه لينين: لا تنشر المقالة.. فهي صالحة فقط لليوم.. وليس للغد. بالفعل كتب الزعيم مقالة ثانية في الصباح لنشرها في اليوم التالي مباشرة.

ومن الأمثلة أيضا، ما قاله رأسمالي افتتح مشروعا تجاريا نجح بسرعة هائلة، سأله صديقه عن سرّ نجاحه السريع؟ فأجابه: لقد رصدت نسبة عُشر المبلغ المرصود للمشروع، أما التسعة أعشار الباقية فقد أنفقتها على الدعاية له.

في وطننا العربي تقفل الصحف ودور النشر تباعا، وهي التي عاشت أيام عز وازدهار، آخر من أقفل مطبوعاته «دار الصياد»، وربما سيأتي زمن قريب لن تجد فيه صحيفة عربية ورقية!

إغلاق صحيفة يشبه إغلاق مدرسة، نسأل أين هي حكومات الدول العربية التي تغلق فيها المطبوعات؟ وأين هو دورها في دعم الصحف ودور النشر؟ من خلال اشتراكات سنوية في المؤسسات التي تصدر صحفا، ومن خلال نشر الإعلانات الحكومية فيها. الحكومات العربية بدلا من سلوك هذا النهج المساعد للصحيفة وللمؤسسة الصحافية، تضع عراقيل أمامها، وتتفنن في إصدار القوانين للحد من حريات الصحافيين والمواطنين التعبيرية، وتقييد الصحف بتعابير ومواضيع محددة تزيد الصحف انحسارا.

صحيح أن الصحافة المرئية، هي الأسهل مشاهدة، والأكثر استقطابا للمشاهدين، لكن هذه الفضائيات محكومة بسلسلة من التقييدات، وفقا للدولة الممولة لها، التي هي المتحكم الأساسي في مسيرة الفضائية، بالتالي لا حريات صحافية في عالمنا العربي والإقليمي، إلا وفقا لخطط مرسومة بدقة! حتى أن الحكومات العربية انسحبت من مقولة كون القضية الفلسطينية قضية مركزية للأمة العربية. في الخمسينيات والستينيات من القرن الزمني الماضي، كانت كل الانقلابات العسكرية العربية على الحكام الموجودين، تبرّر بأنها قامت «من أجل تحرير فلسطين»، رغم أن الحكام الجدد يساومون على الأرض الفلسطينية. حتى هذه النغمة أبطلت في معظم الفضائيات العربية، من تلك التي ما تزال تتاجر بفلسطين. كذلك هو الإعلام العربي، الآن بتّ تسمع في معظم الفضائيات تعبيرات مثل: النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي (وكأن المسألة خلاف عل متري أرض من الحدود بين دولتين متكافئتي القوة) بدلا من توصيف القضية بـ»الصراع العربي ـ الصهيوني». يعتقد الجهلة في الحكومات العربية بأن بلدانهم بمنأى عن العدوان الصهيوني عليها. تساوي الفضائيات في التعبير عن قتلى المغتصبين الإسرائيليين والشهداء الفلسطينيين، فتسميهم بـ «القتلى» بدلا من الشهداء! وعلى ذلك قس.

في فضائياتنا العربية محسوبيات والكيل بمكيالين، وكثير من الإعلاميين ينقلون ولاءاتهم حيث تميل الرياح، وحيث يريد الممول. كثيرون من إعلاميينا ينقصهم التواضع، وبالفعل يقعون في فخ الهالة الإعلامية المحيطة بهم في فضائياتهم، التي تنتهي بمجرد خروجهم أو إخراجهم منها. «رغم ثورة الإنترنت، وعصف رياح التغيير بالمنطقة، إلا أن الإعلام العربي يحتاج سنوات عديدة لكسر الطوق الذي لفّه حول رقبته كحليف للسلطة، ولرسم دوره المفترض كرقيب على الحاكم وحارس للمجتمع من تحالف أصحاب النفوذ والمال». نسجل هذه الخلاصة لحوارات أكثر من 300 صحافي وأكاديمي إعلامي شاركوا في مؤتمر «أريج» السنوي السادس حول صحافة الاستقصاء في العالم العربي، الذي عقد مطلع ديسمبر/كانون الأول 2017 في عمّان. أسباب ذلك عديدة، منها قانونية، وسياسية، وثقافية ومجتمعية وذاتية، فضلا عن عوامل لها علاقة بالعقل الجمعي، من قبيل الأعراف والموروث الاجتماعي. وفي سياق متصل نشرت صحيفة «الفايننشال تايمز» مقالا لرولا خلف نائبة رئيس تحرير الصحيفة، بعنوان «القضية الفلسطينية تتعرض للإهمال مع تقارب العرب وإسرائيل». وتتساءل الكاتبة في بداية مقالها: أتذكرون الفلسطينيين؟ وتجيب: لم يعد الكثيرون يتذكرونهم. وتقول إنه في محادثة بينها وبين مسؤول إسرائيلي مؤخرا، لم يذكر المسؤول الفلسطينيين سوى مرة أو مرتين بصورة عابرة. وتقول إنه بعد 25 عاما من اتفاق أوسلو للتسوية والمصافحة التاريخية بين ياسر عرفات وإسحق رابين في البيت الأبيض، تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، لتصبح مجرد قضية هامشية. وتضيف أن المسؤولين الإسرائيليين أصبحوا يباهون بالصلات المتنامية بالدول العربية، والتقارب الذي يحدث مع الدول العربية، رغم الإخفاق في عملية التسوية، بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثنى على التطبيع بين «إسرائيل» وجيرانها.

أدركت الحركة الصهيونية منذ ما قبل تشكيلها كحركة سياسية، أهمية الإعلام في إنجاح مشروعها، فقد خاطب الحاخام راستورون مستمعيه المجتمعين من أجل التهيئة لعقد المؤتمر الصهيوني الأول قائلا: «إذا كان المال هو القوة التي نستطيع من خلالها السيطرة على العالم، فإن الإعلام لا يقل عنه قوة». المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بازل، نص في واحد من قراراته على، أهمية السيطرة على وسائل الإعلام. منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم والحركة الصهيونية تحاول السيطرة دوما على مفاصل الإعلام الرئيسية في غالبية دول العالم. تطورت وسائل السيطرة بالتماهي مع التطور في التكنولوجيا والمخترعات الجديدة، لتوظيفها في خدمة الأهداف الصهيونية ووليدها الإسرائيلي، فما أن ينطلق موقف إسرائيلي من قضية أو من شخص أو من جهة.. حتى تقوم جوقات كثيرة وكل وسائل الإعلام المسيطر عليها، لتردد الموقف ذاته.

المشرفون على الإعلام الإسرائيلي والصهيوني ينسقون خططهم مع متخصصين بصناعة الإعلام ومراكز دراسة السياسات، ومع أجهزة المخابرات والاستخبارات في دولتهم وفي دول كثيرة في العالم، خاصة الولايات المتحدة. من يريد التوسع في معرفة أساليب سيطرة المخابرات المركزية الأمريكية (وحلفائها في إسرائيل) على الإعلام في العالم، عليه قراءة كتب كثيرة في هذا المجال، لعل من أهمها وأبرزها كتاب فرانسيس ستونر سوندرز تحت عنوان «الحرب الباردة الثقافية المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب».

مؤخرا، نجح نتنياهو في إلغاء «المؤسسة الإعلامية» الموكل إليها الإشراف على الإعلام الرسمي للحكومة، وتم سنّ تشريع وإقامة «سلطة البث» الجديدة، التي يستطيع من خلالها رئيس الوزراء التحكّم في كلّ البرامج التلفزيونية، أيضا انطلقت في إسرائيل مجموعة من القنوات التي تبث بـ»العبرية»، يكاد يصل عددها إلى أكثر من عشرين محطة، أبرزها محطة «كان» الإخبارِية، بل هناك محطة اسمها « « i24 تبث أربعا وعشرين ساعة وبلغات أربع عبرية، عربية إسبانية، وروسية أيضا، تم أيضا إطلاق مجموعة من المحطات الناطقة بالعربية يصل عددها إلى (27) فضائية، منها ما يعنى بالرياضة (حيث اهتمام الشباب العربي) والسينما والدراما والأطفال وبالتأكيد الأخبار السياسية، قيل إنه تم رصد موازنات ضخمة لها، وضمنها شِراء أرشيف الدراما العربية من القطاع الخاص، فضلاً عن أن القنوات ذات الصبغة «الرياضية» ستتولّى بث دوري كرة القدم في البلدان العربية مجاناً، وثمة أحاديث عن قرب توقيع اتفاقيات وتفاهمات في هذا الشأن، تمهيدا لإطلاق تلك القنوات. فكيف يمكن تفسير هذه الظاهرة؟ استهتار ولامبالاة في الجانب العربي بالدور الذي تنهض به وسائل الإعلام المختلفة، وفي مقدمتها الصحافة المكتوبة التي دخلت منذ عِقدين مرحلة الموت السريري، فيما صحافة العدو المكتوبة تزدهِر وتخرج بسبق صحافي تلو الآخر، وتجد من يسعى وراءها لاستمالتها (كحال نتنياهو مع ناشر صحيفة «يديعوت أحرونوت»، التي باتت ملفا من ملفات فساد نتنياهو)، ويواصِل خبراء الحرب النفسية لدى العدو، البحث عن كل ما يسمح لـ لرواية» الصهيونية بالسطو على العقول العربية، خاصة عقول الشباب منهم، فيما معظم الحكومات العربية تتطلع بازدراء ولامبالاة لتلك الوسائل، حتى تلك المُدجّنة منها أو التابعة لها!

 

عن جريدة "القدس العربي" اللندنية