دحلان وفائض المأزقيْن

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

 

تكاثرت على مواقع التواصل الاجتماعي، ملصقات التنويه بقيمة وقامة محمد دحلان، النائب المنتخب وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، الذي انتخبه المؤتمر الطبيعي الأخير للحركة. وبدت هذه الموجة، رداً على تخرصات قناة "الجزيرة" في حق محمد دحلان، بفرضيات ظنّية، بلا أي موضوع ذي علاقة بأي سياق سياسي ضاغط على أعصاب الناس وحياتها. وأعقب موجة الدفاع عن محمد دحلان، ظهور ملصقات مضادة، استعادت إسطوانة الإتهامات نفسها التي أعدتها حماس لكي تهيمن على غزة، ثم استعارتها أوساط عباس، لكي يتمكن من إنزال محمد دحلان عن منصته، بحكم حضوره الوازن وقدرته على الاعتراض وشجاعته في إبداء الرأي. ومنذ الخطوات الأولى لإنزاله، بدأ التفرد بقطاع غزة، مهد الحركة الوطنية المعاصرة، ومُنتجها الأول بعد النكبة، مستفيداً من خصوصية وضع القطاع ومن أسباب موضوعية، وليس بالطبع تميزاً لدى إنسان القطاع، عن غيره من إنسان فلسطين، في الثقافة والشكاية والعزم والأمنيات!

محمد دحلان وجد نفسه، في موضع الترميز، وقد ساعدته على الرواج سلوكيات خصومه، ما جعل هؤلاء الأخيرين، يكابدون مهمة تخليق الفرضيات المُرسلة، لمواجهة قوة الدفع الإعتراضية على نهج قيادة السلطة،  وهو نهج مرئي ومسموع ومقروء. وفي عملية تخليق الفرضيات، جرى البحث عن وجه آخر لتجربة الرجل، فلم يجدوا سوى تجربته في العمل الرسمي ذي الطابع الأمني، في سياق العملية السياسية. وأيامها، أدى الرجل مهمته بشجاعة ونديّة أمام العدو، يعرفها الذين رافقوه في الاجتماعات من العسكريين والمدنيين، وكان لها تأثيرها الإيجابي المباشر، على قوته في حركة فتح والسلطة، وفي المؤتمر العام لحركة فتح تالياً!

لو تفحصنا فرضيات النفخ المسموم في فرضيات تجربة محمد دحلان، سنجد كل ما يُثير السخرية. ففي مرحلة عمله الأمني، وكان معه العديد من الزملاء في المؤسسة الأمنية التي تشكلت من أبناء الحركة الأسيرة المحررين، كان الرجل مُكلفاً وتتوافر فيه كواحد من شباب الداخل، ميزة المعرفة التفصيلية لحياة الإسرائيلي، إن لم نقل عدم التحسب والخشية من ضباط الاحتلال!

 اعضاء المؤسسة الأمنية،  يتوزعون الآن على جانبيْ الخصومة، وهؤلاء كانوا ولا زالوا يعرفون محمد دحلان، ومنهم من يقدره علناً وآخرون يقدرونه في قرارة أنفسهم. لكن أبسط الحقائق، تقول إن الرجل في عمله، كان يؤدي عملاً في السياق السياسي، ومُكلف من جانب أب الوطنية الوطنية الفلسطينية المعاصرة ياسر عرفات، وكان الموضوع، ابتداءً، هو إخلاء الاحتلال للمدن والقرى في الضفة وغزة. وعندما وصلت العملية السلمية الى طريق مسدودة، في صيف العام 2000 بدأ سياق آخر في الوطن وفي تجربة الكادر، فتحولت قوة الأمن الفلسطينية الى تشكيلات للمقاومة، وفاق عدد الشهداء من عناصرها، في انتفاضة الأقصى، عدد إخوتهم من شهداء المجتمع، وشهدنا في بدايات الانتفاضة، كيف أصبح القادة الأمنيون، وعلى رأسهم دحلان، يتنقلون خفية، ولا حاجة للمزيد من الشرح، ويصح الإستدلال على ما نقول، ببعض الشواهد التي ارتسمت أمام الناس جميعا، إذ ركز العدو في قصفه الجوي، على مقرات الأمن الوقائي الفلسطيني في قطاع غزة، ودمرها جميعاً، وتوغلت قواته وقطعت الحدود من الشرق الى البحر، لكي تقتحم المقر الرئيسي للوقائي، وتعلن أنها دمرت معملاً لتصنيع السلاح تحت الأرض. ويعرف المقاتلون من حماس نفسها، ما جرى ودور جهاز الأمن الوقائي في المقاومة والتشارك معهم، وكانت بعض العمليات النوعية من تنفيذ ضباط الجهاز!

بعد أن أصبحت الانتفاضة استنزافاً لنا، تحولت الأمور الى توجهات أخرى، تولاها عباس نفسه، ونشأ الخلاف مع الرئيس الشهيد ياسر عرفات بشأن الخيارات. الزعيم الباسل يريد الاستمرار في خوض المعركة حتى النهاية، وكان في رأيه ذاك بعض المنطق، وعباس يريد التهدئة والأخذ بناصية السياسة والعودة الى المفاوضات، وكان في ذلك أيضاً بعض المنطق، مثل ما تدل عليه تجربتنا الراهنة، وتجربة حماس تحديداً. ولم يجد عباس من يسانده سوى محمد دحلان، ليس لأنه يشاركه قناعاته السياسية، وإنما لكونه موصولاً بفعاليات المقاومة المسلحة والفصائل. غير أن تلك الفترة شهدت صعود نجم حماس، بخطابها العاطفي وبشكايتها المتعلقة حصراً، بمنع أجهزة الأمن لها من إحباط العملية السلمية، وانتظار النتائج إن لم تساعد على توفير مناخات أفضل لتلك العملية، لعلها تتقدم. وفي ذاك التعارض بين الخيارات على الساحة الفلسطينية، رُوجت الأقاصيص حول كل رجالات السلطة والمؤسسة الأمنية، دون استثناء أحد، بقطع النظر عن كون عمل المؤسسة الأمنية في وقت العملية السلمية، يختلف عنه في زمن انقلاب العدو على التسوية.

بعد ارتقاء الزعيم ياسر عرفات شهيداً، ثم انقضاض حماس على النظام السياسي، بوعود قصوى تبشر بتحرير القدس، مع اتهامات تندد بالسابقين باعتبارهم أحبطوا الزحف أو خائنين؛ تم عقد المؤتمر السادس لحركة فتح، بتحالف عباس ودحلان. كانت إسطوانة الاتهامات تخص مؤلفيها. ويتذكر كل المتفنيين اليوم في هجاء دحلان، كيف كان وضع الرجل بينهم. فعلى سبيل المثال، يوم أن توفيت المرحومة "أم حسن" والدته، في ديسمبر 2010  وأقيم مجلس العزاء في صالة سليم الأول الكبرى في رام الله، وكانت الأمطار تنهمر بغزارة، ويتطلب الوصول الى مدخل المكان، قطع مسافة لا بأس بها، ناهيك عن المسافة من موضع وقوف السيارة الى باب الصالة؛ ظل المعزون يتدفقون بغزارة فلم يستوعبهم المكان الفسيح، ليصبح خط الخارجين مساوياً لخط الداخلين، والجميع مبلل بماء المطر، والمشهد يرسم خطوطاً متقاطعة من الوداد والرياء!

بعد الخلاف، تفجرت لواعج المناطقيين وحاملي سجلات الأقدمية وهؤلاء يرون دحلان غزاوياً، مثلما حسموا أمر الشهداء المؤسسين، الذين لم تخطر في بالهم مسألة المناطق. رأوا دحلان ذا قوة أدبية لا تضاهيها قوة. وعباس من جهته، يريد ألا يعلو صوت بجانبه، وهذا هو السياق الذي أطاح فيه بكل ذوي الأقدميات الأولى. فلا خلاف البتة بين المناطق، لأن الوجدان الشعبي الفلسطيني موحد، وهذه نعرات يستخدمونها لتعزيز طموحات وأوهام، سرعان ما تضاربت هي نفسها في الضفة، وأوصلت فتح الى حال بؤسها!

كاتب هذه السطور، لا يرى أن دحلان في حاجة الى من يدافع عنه، على الأقل لأنه خارج السلطة وإن لم يفعل خيراً اجتماعياً فلا يفعل شيئاً. لكن الأغبياء يعيدونه الى الصورة كلما تحسسوا ضعفهم، ويمتشقون اسطونة حماس القديمة. والأطرف، أن "الجزيرة" وفي خلفيتها مأزق "الإخوان" أحست بخطر أفدح، عندما توصل دحلان الى تفاهمات مع حماس، على مجموعة مصالح تخص الناس والمجتمع. ولأن "الجماعة" تعتبر حماس أيقونة دعايتها الجهادية، وينبغي أن تكون رأس حربتها في مواجهة مصر، ولا بأس أن تموت غزة اختناقاً لأجل عيون "الإخوان" فقد اعتبرت دحلان خطراً محققاً على مشروعها، لا سيما عندما ساعد على بناء علاقة ثقة، بين حماس والجارة الكبرى مصر، التي لا تزال "الجزيرة" و"الجماعة" تتوهمان القدرة على إسقاط الدولة فيها!

ليوفر المتربصون المشقة على أنفسهم. فدحلان على علاقة بالكثيرين، من كل المستويات، ويتواصل معه أخيار كُثر من كل المناطق، وعلاقته وثيقة بمعظم القوى السياسية الفلسطينية والإقليمية، ومن ليست لديه علاقة بهم، فإن السبب هو أن الوقت لم يسعفه لتأسيس علاقة معهم. ومن ناحية أخرى، فإن وضع عباس وممارسات السلطة، مضروبة في سمعتها وجوهرها، عند الفلسطينيين. فلا مؤسسات ولا منحى إنساني حيال الشعب، لا سيما وفي غزة، ولا تراجع عن التنسيق الأمني، ولا بعد اجتماعي للسياسة، ولا شيء يعزز الموقف الوطني، ومع ذلك كله كلام سخيف لا يقل عن القول إننا تحت الحذاء الإسرائيلي. لذا فإن الهجوم على دحلان، ليس أكثر من محاولة تصدير لفائض مأزقيْن: مأزق "الجماعة" على المحور القطري التركي، ومأزق عباس في منحاه المعلوم!