لا يشغل بال الحكومة الإسرائيلية اليمينية العنصرية، والقيادات فيها، مسألة كيف يمكن لها أن تعيش في حالة سلام مع الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية، ودول الجوار، سواءً بعد سنة أو سنوات، أو حتى بعد عقود. ما يشغل بالها هذه الأيام، كما يبدو ذلك جلياً لكل متابع للأحداث والنقاشات بين تلك القيادات الإسرائيلية، وكيفية انعكاسها في وسائل الإعلام هناك، هو شكل الحروب التي ستخوضها إسرائيل، ليس بعد سنة أو سنتين مثلا، بل بعد عشرين وثلاثين سنة مقبلة. ويتبع ذلك بالطبع، تحديد نوع الطائرات الحربية بشكل خاص، وبقية المعدات العسكرية، التي يتوجب عليها تزويد الجيش الإسرائيلي بها، مستفيدة من منحة الـ38 مليار دولار التي التزمت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، بمنحها لإسرائيل، موزعة على السنوات العشر المقبلة، ابتداءً من العام 2019.
حتى في هذه الأيام، ونحن نتابع بقلق بالغ، محاولات حثيثة ومشينة لدول عربية، للعثور على مبررات وتخريجات واهية للتعاون مع إسرائيل، وبناء تحالفات معها، ودعم أمنياتها وطموحاتها بالقفز من فوق الحقوق الطبيعية المشروعة للشعب الفلسطيني، بذريعة التصدي، (المطلوب والمنطقي والضروري والمبرر)، للسياسة وللتحركات الإيرانية في المنطقة، يجد كل متابع للأحداث وللسياسات الإسرائيلية الجدية الهامّة، (بعيدا عن المناكفات الحزبية الضيِّقة، وقضايا فساد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وزوجته، سارة، وابنه البكر، يائير، وعدد من أقاربه ومقربيه)، أن بين أهم ما يشغل القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، هذه الأيام، هو أمر حروبها المقبلة بعد عشرين إلى ثلاثين سنة مقبلة، (أي ما بين سنة 2038، وسنة 2048)، وإجراء مقارنات ومفاضلات بين طائرات إف 15، التي جرى ويجري تطويرها وزيادة عدد الصواريخ والقذائف التي تحملها، ومداها ودقتها، وطائرات إف 35 الأمريكية الصنع أيضا، كما جاء الكشف عن ذلك في وسائل الإعلام الإسرائيلية، يوم الاثنين الماضي، حيث أن «إحدى الشركات العالمية الكبرى، التي يُتوقع أن تزوّد سلاح الطيران الإسرائيلي بالطائرات المستقبلية، هي شركة بوينغ الأمريكية، التي عرضت في الأسبوع الماضي، أمام المراسلين الإسرائيليين، الطائرات التي يدرس سلاح الطيران شراءها».
لا يغيب عن ذهننا، ونحن نتابع هذه الاهتمامات الإسرائيلية، أن كل هذه التهويشات العقيمة، ليست إلا سياسة هروب إلى الأمام، وهروب من مواجهة الاستحقاقات المترتبة على إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، الذي يناضل لإحراز حقوقه الوطنية المشروعة، تلك الحقوق التي لم تتمكن الحركة الصهيونية العنصرية الاستعمارية من تجاوزها، والقفز من فوقها، رغم كل انتصاراتها في الغالبية الأعم من معاركها في هذه الحرب المستمرة منذ أكثر من قرن من الزمان، تحت عنوان الصراع العربي الصهيوني. يقودنا التفكير السليم، ونحن نمعن النظر في هذه الصورة الإسرائيلية السوداء القاتمة، إلى السؤال الأهم: هل يستطيع الفلسطينيون، هزيمة إسرائيل والصهيونية؟ وجوابي هو: نعم.. وبالتأكيد.
ذلك أن عنصر القوة العسكرية، على أهميته البالغة، ليس عنصر القوة الوحيد في معادلة الصراعات التاريخية الكبيرة. وما يملكه الفلسطينيون من عناصر القوة في مواجهة الاحتلال والاستعمار والظلم والطغيان الإسرائيلي، هي عناصر في غاية الأهمية، وهي، في نهاية المطاف، قادرة على حسم الأمور لصالحها، رغم كل التفوق العسكري الإسرائيلي.
صراعنا مع إسرائيل، ليس مجرد صراع بين طرفين اثنين، إنه صراع بين الظلم والعدل، بين الحق ومصادرة الحق بقوة السلاح.
يحضرني في هذا السياق، ما قاله دافيد بن غوريون، أول رئيس لحكومة إسرائيل، في مقابلة أجرتها جريدة هآرتس الإسرائيلية معه، يوم 2 اكتوبر/تشرين الاول 1959. يقول بن غوريون: «إن أي شخص يعتقد أنه من الممكن أن يحل بالقوة العسكرية فقط، أي مسألة (صراع) تاريخي بين الشعوب، لا يعرف العالم الذي نعيش فيه». ويتابع بن غوريون: «كل قضية محلية اليوم، هي قضية دولية. وبالتالي، فإن علاقاتنا مع شعوب العالم، ليست أقل أهمية من قوتنا العسكرية، التي يجب أن نستمر في رعايتها، من أجل ردع أي هجمات قد نتعرض لها، ومن أجل الانتصار، إذا اضطررنا للقتال».
هذا كلام صحيح ودقيق. وهذه المعادلة التي تركِّز على النتائج الإيجابية، والحاسمة أحيانا، في بناء علاقات متينة وتحالفات مع شعوب العالم، وكسب تأييدها ومساندتها للحركة الصهيونية في النصف الأول من القرن الماضي، وبشكل أكبر بأضعاف من ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وبسبب ما تعرض له يهود أوروبا من مجازر على يد الوحش النازي، كانت، وما زالت، بندا أساسيا ومركزيا، في سياسات الحكومات الإسرائيلية. وإذا كان الأمر كذلك قبل الفورة التكنولوجية والعلمية الحديثة، التي حولت كامل الكرة الأرضية إلى قرية، يعرف ويتابع كل فرد فيها، كل حدث لحظة وقوعه، فإن مسألة ضرورة التركيز والاهتمام ببناء علاقات إيجابية وتحالفات مع شعوب ودول العالم، تزداد أهمية وارتفاعا على درجات سُلّم عناصر القوة. لكن ما يسبق ويتقدم ويفوق أهمية بناء علاقات فلسطينية إيجابية مع شعوب العالم ودوله، هو موضوع مركزية الاهتمام بالساحة الإسرائيلية ذاتها تحديدا، والاستعانة بالعلاقات مع العالم، لرفد وتدعيم بناء علاقات ونقاط ارتكاز في المجتمع الإسرائيلي.
صراعنا مع إسرائيل، ليس مجرد صراع بين طرفين اثنين، أحدهما مدجج بقوة عسكرية بالغة التفوق، وثانيهما مدجج بالحق الطبيعي المشروع في التحر والاستقلال وتقرير المصير. إنه صراع بين الظلم والعدل، بين الحق ومصادرة الحق بقوة السلاح. وللحق والعدل مناصرون في كل بقاع الأرض، وفي إسرائيل ذاتها أيضا.
يوم الخميس الماضي، الثامن عشر من الشهر الحالي، تحدث أمام مجلس الأمن في الأمم المتحدة، اليهودي الإسرائيلي الجندي السابق في الجيش الإسرائيلي، حَغاي إلعاد، بدعوة من مندوب بوليفيا، رئيس مجلس الأمن لهذا الشهر.
حغاي إلعاد، ناشط إسرائيلي في مجال حقوق الإنسان، ويتولى منذ العام 2014 منصب الأمين العام لمركز «بِتسيلِم» الإسرائيلي لرصد وتوثيق ونشر ما يتعرض له الفلسطينيون من انتهاكات إسرائيلية. تحدث إلعاد عن القرية البدوية الفلسطينية »خان الاحمر» التي قررت إسرائيل هدمها، ووصف ذلك بالجريمة وطالب العالم بمناصرة الفلسطين ومنع إسرائيل من تنفيذ هذه الجريمة. تحدث إلعاد أمام أعضاء مجلس الأمن عن معاناة أهل قطاع غزة، «أكبر سجن تحت قبة السماء»، على حد تعبيره، وطالب المجتمع الدولي بالتحرك العملي لوقف هذه الجريمة الإسرائيلية. تحدث إلعاد عن كل ما يعانيه الفلسطينيون من ظلم وقهر واضطهاد من جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. وأنهى إلعاد كلمته أمام أعضاء مجلس الأمن بالقول: «إنني واحد من مجموعة تعمل من أجل تأمين حياة من الحرية والاحترام لـ13 مليون إسرائيلي وفلسطيني يعيشون بين البحر التوسط ونهر الأردن. حتى وإن بدا هذا الأمر الآن بعيد المنال، بل وآخذ في الابتعاد أكثر وأكثر،، فإن باستطاعتنا تحويله إلى واقع. إن أعمالا غير مساومة من جانب المجتمع الدولي، قادرة على إحراز ذلك. على العالم أن يوضح لإسرائيل أنه سوف لا يستمر في الوقوف جانبها، وأنه سيعمل ضد التدمير المتواصل للشعب الفلسطيني».
رد مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، داني دنون، محتجا على دعوة مندوب بوليفيا لإلعاد للتحدث إلى أعضاء مجلس الأمن. ثم خاطب إلعاد بالعبرية قائلا له: «سيد إلعاد، انت مواطن في دولة إسرائيل تخدم أعداءنا. جنود جيش الدفاع الإسرائيلي يدافعون عنك، وتأتي أنت إلى هنا لتهينهم. اخجل من نفسك يا عميل».
ليس كل الإسرائيليين على صورة ومثال إلعاد. لكن ليس كل الإسرائيليين على صورة ومثال دنون أيضا.
عن جريدة "القدس العربي" اللندنية
