الكبت الجنسي

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

موضوع الجنس من بين أكثر المواضيع أهمية في حياتنا، وبالرغم من أهميته؛ يتم تناوله بالخفاء وبالطرق الملتوية، وبشكل خجول، ومن النادر أن يتم تناوله كموضوع علمي، بعـيداً عن الخجل والضغوط الاجتماعية، وعادة ما يقترن الجنس في مخيلة الإنسان العربي باللذة المسروقة والمومسات والخطيئة، وهذا ليس بسبب ضعف الثقافة الجنسية، أو بسبب التربية؛ بل وبسبب النظرة التاريخية للمرأة والجنس، والتي اتسمت بالاحتقار والدونية، ولحق بها كثير من التشويهات.  
يقول بوعلي ياسين في «الثالوث المحرم»: «للإنسـان حاجات أولية، لم تتغير في جوهرها منذ كان بدائيا، والفرق بين الإنسان والحيوان في هذا المجال هو إمكانية الإنسان التحكم فيها، وتنظيمها، وتعود جمـيع حاجات الإنسان الأولية والثانوية إلى حاجة أساسـية أولى، هي حفظ الذات، من خلال غريزتي البقاء والجنس».  
ويضيف: «في بدايات المجتمع البشري ما كان الناس يعيشون ضمن تشكيلات اجتماعية بشكلها المعروف حاليا، بل في مجموعات، وكان إشباع الحاجة الجنسية حراً بلا قيود، يمارس كأي نشاط آخر، ومع تطور المجتمعات البشرية بدأ تقنين الإشباع الجنسي وتهذيب الغرائز البدائية، فحدث أول تقييد للحرية الجنسية، من خلال تحريم الزواج والعلاقة الجنسية داخل الأسرة، ثم تواصل هذا المسار التحريمي حتى سما بالمجتمع البشري من مرحلة القطعان إلى مرحلة النظام الأسروي»؛ وهكذا وصلت البشرية قبيل عصر الحضارة إلى مرحلة تحديد العلاقة الجنسية بين رجل واحد وامرأة واحدة، وظهور الأسرة الأحادية القائمة على التزاوج بين اثنين فقط.
وكان تحريم القريبات كما غيرها من التحريمات: يستولي الرعب على المتخاصمين؛ فيتجنبون السقوط في دوامة العنف المتبادل، ويتجنبون بعضهم بعضا، تماما مثل تحريم القتل ضمن نفس المجموعة، وهذا التطور في النظام الاجتماعي واكبه مسار تحريمي/تنظيمي بدأ بالحرية الجنسية المطلقة، وانتهى بالكبت النسبي، أي بفرض ضوابط وتحديدات اجتماعية معينة، تتناسب مع تطور الوعي، ووصول البشرية إلى المجتمعات الحديثة. 
ويؤكد علماء النفس أن الجنس حاجة ملحة وطبيعية لكل إنسان، وطالما ظل الجنس حبيسا لدى الإنسان سيبقى مصدراً لقلقه وتوتره، ومحفزا لمراكز التنبيه في عقله الباطن. ومن الممكن أن يؤدي لما يُعرف بالكبت الجنسي..
والكبت الجنسي ينتج عن تحكم الفرد بطاقته الجنسية، ومنع رغبته بها، وحبسها إلى حين تفريغها في الوقت والمكان المناسبين، أي بالطريقة التي تحددها طبيعة وثقافة المجتمع، أي من خلال الزواج، وإلا سيضطر إلى تفريغها من خلال وسائل أخرى، أو أنها ستبقى تؤرقه، تاركة آثاراً سلبية عديدة.
والأرضية الملائمة لتفاقم الكبت الجنسي، أو انفلات الجنس من دائرة السيطرة الإنسانية الواعية، تكمن في غياب التربية السليمة التي تؤمّن نموا عاطفيا ونفسيا سليما للفرد، وفي ضعف الثقافة الجنسية، وفي تخلف نظرة المجتمع للجنس أو للمرأة بشكل عام، وهذه العوامل غالبا ما تكون متوفرة، وترافقها عوامل أخرى ستجعل من الكبت الجنسي مشكلة في غاية الخطورة، تهدد استقرار المجتمع، فمثلاً: ارتفاع تكاليف الزواج، وتعقيدات الحياة، أدت إلى تأخـير سـن الزواج للجنسين، ما يعني أن الشبـان سيمرون بفترة عصيبة مسكونين بالخوف من المستقبل، الذي سيرونه مظلما ومجهولا.
وإذا كان الزواج يمثل الحل السهل للمشكلة الجنسية، إلا أنه لم يعد الآن بنفس السهولة، وحلول الكبت الجنسي كتعدد الزوجات وزواج المتعة وزواج المسيار، والتي ما زالت مثاراً للجدل، لا تعتبر حلولا جدية، فهي مقدمة للرجال فقط، وللأغنياء منهم على وجه الخصوص، ومن الخطأ أن نعتبر أن «الكبت الجنسي» مشكلة تخص الذكور، فهي تخص الجنسين بنفس الدرجة. 
أما الحلول «التحريمية» مثل منع الاختلاط، وفرض النقاب، واعتكاف المرأة في بيتها، ما هي إلا حلول سطحية، تدور حول المشكلة ولا تدخل في جوهرها، فمن المعروف أنه كلما أمعن المجتمع في انغلاقه وتحشمه الظاهرين، وسجنهِ للنساء، تفاقم الكبت، وبالتالي الانحراف، ليس لأن الممنوع مرغوب فقط، بل لأن هذا يتنافى مع المنطق الطبيعي وسنن الحياة. وقد أثبت الواقع أنه في المجتمعات المعزولة المغلقة، التي تختفي فيها النساء من الشوارع والحياة العامة يتجه الرجال نحو «الغلمان».
وليس خافيا على أحد أن المرأة مغرية في نظر الرجل الذي يبحث عن الجنس، مهما كدست فوق جسدها من ملابس، إذ كلما غطت جزءا من جسدها، حلّق خياله لصورة المرأة المختزلة في أعماق ذاكرته، فهو ليس بحاجة إلى أي إغراء خارجي، فالموضوع عنده ذاتي بحت، يعتمل في داخله وتضطرم نيرانه في سريرته، وثمة طاقة داخلية وحرارة محبوسة تبحثان عن مخرج ومتنفس، وبأية طريقة - في حالات معينة - وهنا فإن إخضاع الاندفاعات الجنسية لن يأبه كثيراً لشكل المرأة ومدى تحشمها، وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد، سيكون مستعداً لتفريغ طاقته الجنسية بأي اتجاه.
ويقول علي الوردي في «وعاظ السلاطين»: «إن تناقض القيم الدينية والمواعظ الأخلاقية مع ما يذاع على الناس في وسائل الإعلام، التي تعرض آخر ما توصلت إليه في تجارة الإغراء والإثارة، وما يشاهدونه على أرض الواقع، هذا التناقض سيولد لدى الشباب شخصيتين: إحداهما مخصصة لسماع المواعظ وتردادها، والثانية لممارسة النـزوات والمغامرات الجنسية». 
وهذا لا يعني أن الإسلام عجز عن تقديم الحلول الجذرية للمشكلة الجنسية، بل كان العجز في علماء الإسلام وشارحيه، فالذي يتمعن في آيات القرآن الكريم أولاً، ثم ينظر إلى أحاديث النبي بخصوص المرأة والحياة الأسرية ثانيا، وإلى ثقافة المجتمع الإسلامي المتعلقة بنفس الموضوع ثالثاً، سيشعر بأنه ينتقل تدريجياً من عالم رحب واسع الآفاق مرن وميسّر إلى عالم ضيق يقطع الأنفاس ويرهب العقول، فالقرآن ترك فسحة كبيرة للناس كي يصوغوا حياتهم بأنفسهم في ظل مبادئه وأحكامه العامة، كما نصت الآية الكريمة: {يُريدُ الله بِكُم اليُسرَ وَلا يُريدُ بِكُمْ العُسْر} لكن هذا اليسر لم يناسب المتزمتين الدوغمائيين المتسلطين، فأعسروا على الناس وأرهبوهم دينيا مع إرهابهم سلطويا، ونتيجة ذلك تجنب الخطاب الديني التقليدي الخوض في موضوع الجنس، إلا بمقدار ما يتماشى مع أنماط تفكيره ونظرته له. 
كيف نظرت المسيحية للجنس؟ موضوعنا القادم.