أصبح من المؤكد، أن طرفي الخصومة السياسية في بلادنا، لن يتقبل واحدهما الآخر، حتى وإن حدثت معجزة المصالحة. لقد منحهما الشعب الفلسطيني، أكثر من عقد من الزمن، من الصبر والعذاب والخسارة على كل صعيد، لكي يتصالحا بمعنى إعادة اللحمة للكيان السياسي الوطني، الذي هو ملكية حصرية للشعب. لذا فإن الذين يتعاطون مع المساعي الحميدة، في محاولات جمع الشمل، أجدر بهم أن يتقبلوا مساعي الوسطاء الحميدة، لإعادة الأمانة الى أصحابها، في عملية إصلاح ديموقراطي، لاستعادة المؤسسات وإلزام الذين يحكمون، بالقانون والوثيقة الدستورية ومبدأ الفصل بين السلطات. والبداية بالطبع، تكون بالتمكين للإرادة الشعبية عبر صناديق الاقتراع. ولقد بات الشرط الأهم، لهذا التمكين، هو إعلان كل طرف عن تخليه عن السلطة، وتسيير الأمور، بشرط حصر الممتلكات والمقدرات المالية المتوافرة التي هي ملك المجتمع، لحين فرز نتائج الانتخابات!
لقد أصبح الطرفان متطفليْن على الشعب الفلسطيني ويحكمانه بلا تفويض. وبسبب غواية السلطة، يتحمل كل طرف أوزار الإخفاقات والكوارث ويتظاهر بالرضا عن نفسه. طرف يزعم أنه حامل أختام الشرعية، دون أن يكون للشعب أدنى تأثير على خياراته وسياقاته، والثاني يزعم أن حارس الفضيلة وصاحب المقاومة، دون أن يكون للشعب رأي في خياراته أو الحق في الاعتراض على سلوكه وتمحيص حقيقة أمره. وبهذه المعطيات، أصبحت المصالحة تمثل حاصل الجمع لكل الرزايا، وتوافقاً بين المُتضاديْن، على إقصاء المجتمع. بل إن هذين الطرفين، حين يتصالحاً، سيكون المنحى هو التحاصص أو تغطية كل طرف عورات الطرف الآخر، إذ يبتلع كل منهما مطولات الهجاء البشع، للآخر، طوال مرحلة الخصومة.
نعلم أن ما ندعو اليه، صعب ويفتح الباب لمظنّة الترف الفكري. ذلك على الرغم من أن الطرفين، أشبعانا كلاماً، عن استعداد كل منهما لترك السلطة، إما بتسليم المفاتيح للاحتلال، مثلما يصدر من رام الله بين الحين والآخر، أو بتسليم السلطة لحكومة توافق حقيقي، مثلما يصدر عن الحاكمين في غزة. فالأسهل والأكرم، هو الاستجابة للمطلب الشعبي، استعادة وحدة الكيان الوطني على الأسس الدستورية، وتأمين كل التدابير لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة، يراقبها الوسطاء والمنظمات الإقليمية والدولية. عندئذٍ لن يكون صعباً على من يرغب في الهروب، أن ينسحب من المشهد، ولا صعباً على من يلوّح بتسليم المفتاح أن يستريح من غير أن يتحمل مسؤولية التسليم، ولن يشعر المكلف بوقف التنسيق الأمني بأنه في مازق وأن المسألة تخصه حصراً، ولن يكون صعباً على من يزعم أنه يقاوم صفقة القرن أن يقاومها!
ما ندعو اليه، يلائم كل الأطراف التي تزعم أنها تتوخى المصلحة الوطنية والصواب والطريق القويم. فلا مناص من إصلاح ديموقراطي للنظام الوطني، لكي يكون قادراً على تمثيل الكتلة الشعبية والحصول على التأييد في كل خياراته.
لماذا من السهل طرح كل المسائل المتعلقة بمصالحة مستحيلة، ثم تكرار طرحها، ثم تكرار الخوض فيها، ويكون من الصعب الدعوة الى انتخابات فلسطينية وفق الوثيقة الدستورية، مع تحديد سقف التطلب السياسي، لضمان الفاعلية السياسية في هذا المعترك، لمؤسسة الرقابة والتشريع؟!
مثل هذه الانتخابات، التي من شأنها إطلاق عملية إصلاح ديموقراطي نحن أحوج اليه من كل شعوب العالم، هي البداية الصحيحة. أما المصالحة التي انتظرناها طويلاً، وكانت أدبياتها تتحدث عن الانتخابات كهدف نهائي؛ فلم تعد متاحة، ومن الخطأ أن نفتش عن بدائل. لعل البديل أن يتصالح الطرفان مع الوثيقة الدستورية، ويتقبلا العملية الديموقراطية. فليمنحوا الشعب حقه هذا، ثم ليتخاصموا أبد الدهر وليشبعوا خصومة يضبط القانون شروطها. إن درعنا الواقي، في مواجهة إعصار ما يسمى "صفقة القرن" هو العملية السياسية التي تنتهي بحكومة فلسطينية ذات تفويض شعبي!
