البلد اليوم باتت وكأننا نعيد اكتشافها مجددا حتى وكأننا عدنا إليها مجددا بعد غياب طويل، هذا الشعور بدأ يتنامى مجددا في ضوء ضعف الأداء الحكومي بمكونات الحكومة ككل حتى أن خطاب الحكومة بشكل عام ووزرائها للجمهور لم يعد يلقى صدى وبات من عيار برنامج "سلام وتحية" الذي كان ينقل من خلاله تحيات أهلنا خارج الوطن الى الناس في البلد، وبات يعتمد على التسريبات لأرباك الناس فوق إرباكهم وهي غالبا تسريبات مدروسة وممنهجة، وتاريخيا التسريبات لم تصنع سياسات ولا تنمية ولا تطويرا بل تراكم أخطاء تلو أخطاء.
هذا الضعف الحكومي في الأداء قاد الى انتقال الناس من التركيز على الهم الوطني الجمعي وإرجاعه الى كاهل الفصائل الوطنية وتحميل الحكومة قضايا مواجهة الاستيطان وجدار الفصل لأنها أغرقت الناس بقضايا حياتية لا طائل لهم بها، حتى أن المسافر عبر معبر الكرامة ينتابه شعور أننا تحولنا الى مهربين محترفين لنعالج انفسنا من فحش الأسعار لذات الأصناف والماركات والأحجام والأوزان، وحتى هذا المشهد المضر والمؤذي لم يدفع الحكومة ولا وزارات الاختصاص للتحرك خطوة، الى أن ابدع التجار بالحل من خلال كسر الحماية الحكومية للوكالات الحصرية وذهبوا باتجاه جلب ذات الأصناف العالمية بأسعار زهيدة فساهمت بإشعال المنافسة رغم محاولات محاربتها والإيحاء انها اقل جودة من الأصناف المستوردة.
وفجأة ينتهج بعض الوزارات التسريبات الإعلامية بخصوص رفع الجمارك على المركبات المستعلمة المستوردة بنسبة 100% لتعود وتنفي التسريب وتحاول ان تكحلها لنكتشف وجود خطى حثيثة باتجاه رفع الجمارك بصور مختلفة، ورغم توافقي أن استيراد السيارات المستعملة فكرة نبيلة وتم سلبها وإفراغها من مضمونها بعد ان كانت بهدف توفير مركبات للمواطن بأسعار زهيدة وليس إقحام تلك التجارة بسيارات فارهة مرتفعة الكلفة.
وما هي إلا لحظات حتى يخرج علينا وزير الحكم المحلي بخطاب في افتتاح بيت الخبرات في رام الله مفاده "عندما نحتفل برام الله نموذجا ومركزا لتحصيل ضريبة القيمة المضافة"، ولم يجر أي تصويب بعد الخطاب او خلاله الأمر الذي أشار الى ان هناك ضرائب جديدة ستفرض على المواطنين في مدينة رام الله كنموذج لبقية البلديات، وجاءت التطمينات من بلدية رام الله ان المقصود "جباية ضريبة الأملاك بشكل مباشر من البلدية نيابة عن وزارة المالية"، أين هذه وأين تلك وهل ستكون جزءا من التسريبات الإعلامية التي باتت رائجة؟
في البلد بوشر منذ فترة بحملة ضد اتحاد نقابات عمال فلسطين وقبل ذلك النقابات العمالية واتحادات أخرى وكان الحديث يدور حول قضايا النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد، اليوم بات واضحا أن هذا الإضعاف أنتج غياب أطر تستطيع ان تسند أي قرار لأن تراكم إضعافها كان كافيا والمهمة أنجزت ببراعة، والآن تتم الاستعانة بهذه الأطر لرفع صوتها انتصارا لموقف الحكومة بخصوص إنفاذ الضمان الاجتماعي دون جدوى وما باليد حيلة.
والأمر يتواصل في القطاع الزراعي من خلال إبداعات حكومية بإقرار استيراد زيت الزيتون لبلد الزيت!!!، وقضايا تنظيم القطاعات الزراعية، ومراجعة الإجراءات بخصوص استيراد الخراف من الخارج لتصل الى 50 ألف رأس على أبواب عيد الأضحى إلا أن أسعار اللحوم الحمراء لم تنخفض بالمطلق ترى لماذا لم ننجح.
ولكننا نصر ونكرر اننا لسنا منتظرين على "نكشة" لكي نهاجر، ولا نعيش إلا في هذه البلد، فإن صوتنا لن يكون مبحوحا او محجوبا او ضعيفا رغم ان الجهود تذهب باتجاه حجبه وتحجيمه.
البلد الذي نتمناه لا يشتعل بكبسة زر موجه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يهدأ من خلال صعود الحكومة على الشجرة بحيث لم تعد قادرة على النزول، هي بلد التوازن بين المصالح لنتمكن من العيش الكريم والمشترك، بلد تعتمد العقد الاجتماعي الذي تعاقدنا عليه، بل فيها مساحة من الحرية وحق ممارسة الانتخابات والمساهمة في التغيير ومراجعة السياسات العامة ونقاشها وفتح قنوات التأثير في كل ما يتعلق بشؤون حياتنا.
بلد تكون فيه فصائله ومؤسساته قادرة ان تشكل رافعة له وصمام أمان اذ لا يعقل ان يخرج المجلس الثوري لحركة فتح بتوصية بتعديل قانون الضمان الاجتماعي وتأجيل تنفيذه ويغيب صوتهم بعد ذلك، هذا في غياب دور فاعل للمجلس التشريعي.
نتطلع ان تكون أبواب الوزارات مفتوحة على مصراعيها لممثلي القطاعات التي تدير شؤونها إذ لا يعقل ان يقف مربو الدواجن ليحتجوا أمام وزارة الزراعة وتظل الأمور كما هي قبل الاعتصام، ولا يجوز ان يظل المستهلك يعاني من ارتفاع الأسعار والتغول بها وقرارات وزارية في مختلف القطاعات لا تنفذ ولا تتابع سواء تدعيم الدقيق، وتخفيض استخدام الملح في الخبز والطعام، وفي قطاع الاتصالات، وقرار الحكومة بدعم ومنح الأفضلية للمنتجات الفلسطينية، ومراجعة أسعار الأدوية في السوق دوريا وليس كل ستة اشهر مرة واحيانا مرة في العام، وقرار دمغ الأسمدة الكيماوية والمبيدات المسموح استخدامها في السوق ومحاربة التهريب والإفراط في الاستخدام.
بلد لا يجوز ان يظل القطاع الخاص الفلسطيني فيه مظلوما ومنقوص الحقوق بينما يقال اننا على علاقة وطيدة وحوار وشراكة ويوميا نستمع الى حجم المشاكل لدى هذا القطاع، وفجأة يصبح هذا القطاع متهما بصفة أو أخرى انه أتاح لموظفيه وعماله الاعتصام من أجل تعديل قانون الضمان قبل تنفيذه، وهل نسينا وقفة القطاع الخاص مع إضراب الأسرى الذي قاده الأسير مروان البرغوثي وكيف وقفوا في الخيام بأسماء شركاتهم إضافة لفعالياتهم الخاصة، وفي الأيام الوطنية والتزامهم بالإضرابات التي تعلن، هذا إضافة لدورهم الأساسي والجوهري في التنمية الاقتصادية والصناعية والإنتاج والتشغيل.
إلى أين... أوسلو ناقص أو زائد أم دولة واستقلال؟
15 أكتوبر 2025
