سيول جارفة

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في الأزمنة الغابرة، كان الناس على مستوى بسيط جداً من المعرفة، وكانوا يجهلون قوانين الطبيعة، ويعجزون عن تفسير وفهم ظاهراتها المتكررة، والمخيفة، وكان السحرة والكهان يتولون مهمة تفسيرها، بحيث كان يتم دوما ربطها بغضب الآلهة.. فإذا فاض النهر، فالسبب أنَّ الإله لم تعجبه القرابين المقدمة، وإذا ثار بركان ما، فلأن الإله ينفث حمم غضبه.. وهكذا..
ولكن، بعد قرون من التحضر، والتقدم الإنساني، ومع تطور العلوم، واتساع نطاق المعرفة على نحو كبير جدا.. أمكن تفسير تلك الظواهر؛ فصار معروفا أن البرق سببه تفريغ غيمتين لشحناتهما الكهربائية المتنافرة، والرعد هو صوت تفريغ الهواء الناجم عن البرق، وليس للأمر علاقة بأي غضب أو تهديد من قبل الآلهة.. وصار معروفا أن الأمراض سببها البكتيريا مثلا وليست الأرواح الشريرة التي تتلبس جسد المريض.. وأن الزلزال سببه انزلاق طبقات الأرض التكتونية، وهو ليس عقابا من أي إله.
وهكذا، مع كل تقدم يحرزه العلم، كانت تختفي أسطورة ما، وتموت خرافة أخرى، وتتراجع التفسيرات الغيبية.. صحيح أن العديد من الظواهر الطبيعية ما زال لغزا غامضا، ولم يقدم العلم لتفسيرها سوى نظريات غير مؤكدة، بيد أن سفينة العلم ما زالت تواصل رحلتها في بحر الكون، ولم تصل مرفأها الأخير بعد.. ولكن، من المؤكد أن العلم يكتشف في كل يوم ما هو جديد، ويفسر ما هو غامض.. ويمكننا المراهنة عليه. 
اليوم، ونحن في مستهل الألفية الثالثة، يبدو أن البعض ما زال يعيش بعقلية زمن المشاع الأول، وبمستوى فهم الإنسان البدائي.. هؤلاء، لم يسمعوا عن تفسيرات العلم لكل ما يدور من حولنا، لم يدركوا أن زمن الخرافات والتفسيرات الغيبية قد ولى إلى غير رجعة.. وما زال هؤلاء في كل مرة تحدث كارثة طبيعية يزعمون أن سببها نقمة الله على الناس!
قبل أيام، دهم سيل جارف بالقرب من البحر الميت رحلة مدرسية، فتوفي في الحادثة الأليمة 23 طفلا.. وحينها خرج على الإعلام شيخ أردني يدّعي أن سبب السيل هو غضب الله على الناس بسبب معاصيهم.. ولأن خطابه شعبوي، ومغرق بالعاطفية، وإثارة الغرائز، ومحاكاة مخاوف الناس، وتلمس نقاط ضعفهم، واستشهاده بآيات من القرآن الكريم.. لاقى خطابه أصداء واسعة.
وهذه ليست المرة الأولى، فإذا انحبس المطر، أو تأخر، يخرج شيخ ويقول إن سبب ذلك غضب الله، وإذا انهمر المطر سيقول أيضا إن سببه غضب الله!. 
وهذا التفكير البدائي (الطوطمي) لا يوجد فقط في البلدان العربية، ولا هو خاص برجال الدين الإسلامي؛ فقبل سنوات ضرب إعصار قوي سمي "كاترينا" ولاية لويزيانا بالولايات المتحدة، وتسبب بخسائر فادحة، وحينها ظهر في الإعلام رجال دين مسيحيون وزعموا أن سبب الإعصار غضب الله على معاصي لاس فيجاس! 
ما يحدث عمليا، أنّ كارثة طبيعية معينة تضرب منطقة ما، لها أسبابها ومسبباتها العلمية، لكن بعض رجال الدين يستغلون الفرصة لربطها بأيديولوجيتهم، فإذا كان ناقما على مسألة ما، سيربطها مباشرة بتلك الكارثة الطبيعية، من خلال الضرب على الوتر الحساس، في لحظة ضعف إنساني ومجتمعي.. فمثلا الشيخ الأردني ناقم على بعض الظواهر المجتمعية، وهي كما قال في خطابه: الحفلات المختلطة، واستدانة الناس من البنوك (الربوية)، وفساد بعض المؤسسات.. ولسنا هنا بصدد مناقشة تلك المسائل، لا تأييدا ولا رفضا، بل لنطرح سؤالا: ما علاقة هؤلاء الأطفال بما يحدث في البلد؟ وهل الانتقام  من صفات الله جل شأنه؟.
لقد مر الصيف الماضي على منطقتنا بلا كوارث طبيعية، وكان صيفا معتدلا.. فهل يعني ذلك أن الله كان راضيا عن الناس؟ ، أليس هذا المنطق تعدٍ على الذات الإلهية؟ وبنفس المنطق، هل البلدان الأوروبية التي تنعم بالمياه الوفيرة والمناظر الطبيعية الخلابة، والاستقرار والأمن هي بلاد تحوز على رضا الله سبحانه؟ فتلك البلاد إن وقعت فيها كارثة طبيعية، تكون الخسائر البشرية محدودة جدا.. هل للأمر علاقة بغضب الله ورضاه، أم لها علاقة بصلابة البنى التحتية، وتوفر المنشآت والاستعدادات اللازمة لمواجهة أي كارثة محتملة؟ 
ليس لدي تفسير علمي دقيق لظاهرة السيول التي تجتاح المنطقة، والخسائر البشرية الفادحة التي تسببها، ولكن الموضوع مرتبط حتما بالتغيرات المناخية من جهة، ومن جهة ثانية مرتبط بتوفر السدود في الأماكن اللازمة، واستعدادات الجهات المعنية بتفقد البنى التحتية، وتوفر طواقم الدفاع المدني، وسلوك الناس ووعيهم.. ويمكن للمختصين، المطلعين على البيانات والمعلومات تقديم تفسير دقيق لما يحدث.. وغير ذلك، مجرد ادعاءات أيديولوجية، منبثقة من عقليات لم تطلع على ما أحرزه العلم من تقدم ومنجزات.. وتحاول استغلال الظرف لتسويق أفكارها وبرامجها.. وهذا المسلك، هو تسويق للجهل والتضليل، واستغلال الدين لأغراض جانبية.
آن الأوان لننبذ الخرافة والجهل، ونبدأ التفكير بمنهجية علمية موضوعية، فقد تأخرنا كثيرا عن ركب الإنسانية.
وآن الأوان لنكف عن عقلية اللوم، والبحث عن المخطئ، لإدانته شخصيا، وتحميله كل المسؤولية.. فإن كان مهما جداً أن نعرف المقصّر، وأن نحاسب الفاسد؛ فالأهم من ذلك التفكير بإيجابية، وبشكل جماعي، والبدء بوضع الحلول العملية، والاستفادة من قوى الطبيعة ومواردها، والاستعداد لمواجهة المستقبل.