تمرد عسكري أوروبي على الولايات المتحدة

التقاط.PNG
حجم الخط

 

دعوتان متزامنتان لإنشاء جيش أوروبي مستقل عن الولايات المتحدة، الأولى جاءت على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء الماضي، والثانية على لسان رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر في اليوم نفسه، وسبقتهما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أشد المتحمسين إلى رؤية جيش أوروبي مستقل وموحد، وإذا كانت هذه الخطوة قد راودت قادة دول الاتحاد الأوروبي إلا أنها كانت تصطدم دائما بالغضب الأمريكي، الذي يراها تمردا على القيادة الأمريكية لحلف الناتو، فما الذي حدث لتخرج هذه الفكرة إلى العلن بهذا الزخم والقوة؟

السبب الأول والمباشر هو قرار الرئيس الأمريكي ترامب الانسحاب من اتفاقية الحد من الأسلحة النووية مع روسيا، والتي ترى فيها أوروبا أن الولايات المتحدة قد تخلت عن التزاماتها تجاه أوروبا، وانفردت بقرار له تأثير مباشر على دول القارة التي تتشارك مع روسيا في الحدود، بينما الأراضي الأمريكية بعيدة عن الخطر، وتشعر الدول الأوروبية بأن الأزمات المتصاعدة بين روسيا والولايات المتحدة تضعها في مقدمة صدام قد لا تراه ضروريا أو مناسبا، ويعرض أمنها للخطر، مثلما حدث في أزمة أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وازداد القلق مع سياسات ترامب الجامحة والمتقلبة، ولا تريد أوروبا أن يكون أمنها رهينة بأيدي الرئيس الأمريكي.

أما السبب الثاني فهو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقد كانت بريطانيا ترفض بشدة أي خطوة باتجاه تأسيس جيش أوروبي مستقل عن الولايات المتحدة. السبب الثالث هو الضيق الأوروبي من ممارسة هيمنة أمريكية مكشوفة على قراراتها، ومنها الخروج من الاتفاق النووي مع إيران، وهو قرار تفردت به الولايات المتحدة، وأرادت أن تجر إليه باقي شركائها الأوروبيين عنوة، بل فرضت على الشركات الأوروبية أن تلتزم بالقرار الأمريكي وليس بقرار دولها، وظهرت أوروبا وكأنها فاقدة السيطرة حتى على شركاتها وقرارها، ولهذا كان الإصرار الأوروبي، والألماني على وجه الخصوص بألا تمتثل شركاتها لقرارات العقوبات الأمريكية ضد طهران، فالمسألة أصبحت تخص الكبرياء الألماني والكرامة الوطنية، وهذا الشعور بالضعف والمهانة أمام الولايات المتحدة أحد أسباب صعود قوى اليمين المتطرف في أوروبا، والداعي إلى العودة للدولة القومية، وليس فقط التخلص من الهيمنة الأمريكية، ويحقق اليمين المتطرف تقدما كبيرا في انتخابات معظم الدول الأوروبية، وكان على حافة الفوز في فرنسا، لولا توحد معظم الأحزاب الفرنسية في مواجهة ماري لوبان، لكن لا يمكن تجاهل تلك الأصوات الرافضة للهيمنة الأمريكية، خصوصا بعد توقيع عقوبات اقتصادية على أوروبا، ومطالبة الرئيس الأمريكي ترامب دول أوروبا بأن تدفع مقابل حمايتها.

وإذا كان قادة أوروبا يبررون السعي إلى إقامة جيش موحد ومستقل بأن الخطر الروسي أقرب إلى بلدانهم، فإن أوروبا لا تبدو راغبة في استثارة روسيا، أو خوض سباق تسلح معها، أو التحرش العسكري بها، بل العكس فإن أوروبا تخشى أن تكون ضحية لأي صراع محتمل بين روسيا والولايات المتحدة على أراضيها، وتراقب بقلق النزاع بين القوتين على الساحة الأوكرانية، وتخشى أن يمتد ويتسع إلى باقي دول شرق أوروبا، خصوصا مع عودة سباق التسلح بين روسيا والولايات المتحدة، مع اعتزام حلف الناتو مواصلة التقدم شرقا باتجاه الحدود الروسية، ونشر المزيد من القوات في شرق أوروبا، وهو ما يزيد من حدة التوتر في هذه البقعة الحساسة، خصوصا أن روسيا قد ردت على انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحد من إنتشار الأسلحة النووية باختبار أنظمة صاروخية أكثر تطورا، ولا يمكن اعتراضها. أوروبا لن تقبل بأن يستمر الوضع الذي أعقب الحرب العالمية الثانية طويلا، وتولت فيه الولايات المتحدة مسئولية حمايتها، وقد بدأ الحديث عن تعزيز اتفاقية التعاون الهيكلي الدائم بين دول الاتحاد الأوروبي الخمس والعشرين لدمج جيوشها في قوة أوروبية موحدة، والتي تتضمن زيادة الإنفاق الفعال على المشروعات العسكرية المستقبلية، وتعزيز التعاون بين الجيوش في مختلف أنظمة التسليح، والعمل على توحيدها.

إن مجرد طرح أوروبا لاتخاذ خطوات لإنشاء الجيش الموحد يشكل علامة واضحة على اتساع الفجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، وأن هناك إرادة أوروبية على إنهاء حالة التبعية للولايات المتحدة أو على الأقل الحد منها، وإذا كان الرئيس الفرنسي ماكرون يبرر الدعوة إلى بناء الجيش الأوروبي الموحد بأن أوروبا قد تتعرض لتهديدات من الصين أو روسيا، إلا أن مجرد خروج أوروبا من التحالف العسكري مع الولايات المتحدة سيكون تمردا خطيرا عليها، ويفقد الولايات المتحدة جزءا مهما من عوامل قوتها، وهو ما لا يمكن للولايات المتحدة أن تغفره بسهولة.

...عن «الأهرام» المصرية