المجتمع المحلي وحماية المباني التراثية

صلاح هنية.jpg
حجم الخط

وكان أن اجتمعت رام الله على قلب رجل واحد لتحمي التراث المعماري فيها بعد ان انقض البلدوزر على مبنى قديم يعز على قلوب أبناء رام الله وقراها في شارع، حيث آلم المشهد كل الناس وكأن جزءاً منهم قد نُزع، الأمر الذي أعاد الى الأذهان مبنى سينما دنيا ومنتزه البردوني والأنكل سام، حيث انقضت الجرافات على المباني دون سابق إنذار، وقد يختلف حال البردوني عن بقية المباني لأنه كان يحمل بعداً يتعلق بذاكرة الناس الترفيهية في رام الله ولم يكن تراثياً ولا تاريخياً.
اجتمعنا مع مجموعة من المهتمين بالتراث المعماري في رام الله والحفاظ عليه وتبادلنا الرأي وكنا أكثر استماعاً أمام مجموعة من الخبراء سواء اكاديمياً او عملياً، وكانت قلوب الجميع محروقة على التراث المعماري، هناك من اقترح تشكيل صندوق لحماية التراث المعماري، وكان اقتراحاً يعبر عن حرقة حقيقية انه بالامكان ان يدفع كل من شاء جزءاً من المال نحمي به البيوت القديمة رغم ضيق الحال امام قدرات استثمارية عملاقة، وهناك من أصر على الرجوع الى حصر المباني التراثية وتوفير نظام حماية لها ببعد قانوني تكريساً لجهد سابق تم في بلدية رام الله بالتعاون مع مركز حماية التراث ومركز رواق، وضرورة إنفاذ القانون وإيقاع العقوبات وتطوير وتفعيل القانون وضرورة قيام وزارة السياحة والآثار بدورها المناط بها.
خرجنا في اليوم الذي تلاه لنتجمع امام بيت الخبرات التابع لبلدية رام الله، حيث اجتماع المجلس البلدي الأسبوعي، وما هي الا لحظات حتى خرج علينا رئيس البلدية والمجلس معتذرين أن قاعة المبنى لا تتسع لكم، واعذرونا ان نلتقي بكم في حديقة المبنى القديم الذي حافظنا عليه، وكان عنوان اللقاء : نحن في مركب واحد وفي ذات التوجه، ورفعنا عدد المباني المشمولة بالحماية الى 388 منزلاً ورفعناها الى وزارة السياحة والآثار التي يجب ان تصادق عليها لنتمكن من الحفاظ عليها، واردفوا قائلين: هناك قضايا مرفوعة ضد البلدية في محكمة العدل العليا لأننا نرفض هدم مبان لإقامة مبان حديثة، نحن تحت القانون ولسنا فوقه ولسنا دولة، نحن جزء من دولة فلسطين وتسري علينا القوانين، ساعدونا لنذهب سوياً صوب جهات الاختصاص لنرفع الصوت عالياً.
أيامٌ تلت، واذ بمدينة البيرة تتحرك لحماية التراث المعماري وتستصرخ الضمائر، فمن متابعة صفحة جمعية ابناء البيرة تجد صوراً لمبان قديمة ودعوة لحمايتها وصونها، إنه ذات الهم الذي يجمع قصة الفلسطيني مع تراثه ومبانية التراثية، ولا يقيم وزناً لسنوات بل لذكريات وقصص وحكايات.
في خضم هذه الوقائع حكيت حكايتي يوم كنتُ عضواً في اللجنة العليا لاحتفالات بيت لحم 2000 وكان هناك قرار ببناء مركز السلام الثقافي في ساحة المهد مكان مركز الشرطة الفلسطينية، يومها أُعجبت بموقف ممثل وزارة السياحة والآثار في اللجنة الذي رفض بإصرار الهدم لأن عمر المبنى أكبر من خمسين عاماً، وعُطل المشروع طويلاً ليس عناداً بل علماً وحماية، وما هي الا اشهر حتى صدرت فتوى من جهات أكاديمية وعالمية ان المبنى ليس تراثياً برغم عمره، لأن هناك مواصفات أُخرى تراعى.
وبينما كنت منهمكاً في يوم السكري العالمي وفعاليات الفحص جاءني مواطن مهتم بعد ان فحص السكري وتلقى النصائح، وقال: تعال نعمل معكم مبادرة عملية عنوانها التراث واستخدامها في مواضيع التضامن الدولي مع نضال الشعب الفلسطيني، سعدت ان تتكاثر وتتسع المبادرات في هذا الاتجاه وتصب في هدف واحد هو حماية التراث.
لست معادياً للاستثمار، ولكنني من أصحاب رؤية أنسنة هذا الاستثمار خصوصاً التطوير العقاري، والأنسنة تتعلق بعدم الاستخفاف بالناس واطلاق عبارات من عيار "فكركم اجمّد أربعة ملايين دولار عشان ذاكرة ناس مروا من هنا" أو من عيار "ليس بيدنا منع أي كان من الاستفادة من ارضه ومبناه"، يجب ان يكون الاستثمار متناسقاً مع البعد التراثي الحضاري.
مؤسف ان تقدم حكومة التوافق الوطني على إلغاء وزارة التخطيط واعتبارها غير مهمة وليست ضرورية، وها نحن نرى النتائج لأن جزءاً من عملها يرتبط بهذا الملف، وهناك أدبيات خلفتها تلك الوزارة مهمة وبالغة الأهمية. وان تسارع الحكومة في قراءات للقوانين التي لا تحمل صفة الاستعجال على حساب قانون حماية المباني التاريخية والتراثية وتغليظ العقوبات.
محزن ان تماطل وزارة السياحة والآثار في حماية المباني التراثية انتظاراً لتعديل القانون دون ان تشكل اداة ضغط فاعلة لتطوير القانون لحماية الموروث الثقافي التراثي، وهذا دور يجب ان تنتظر الوزارة ضغطاً هو الأول تجاهها وعليها في هذا الملف، لأن الناس لم تعد تحتمل مزيداً من الهدم والتدمير، حتى لو شكلت حواشة طفل حلماً له لكي ينقذ مبنى كان يمر منه يومياً متوجهاً الى مدرسته.
بات ملحاً أن يشكل ائتلافاً من المؤسسات والكفاءات المعنية في هذا الاتجاه والعمل المنظم والممنهج، ويجب ان تكون البلديات عنواناً لهذه الحماية، خصوصاً انها صاحبة قرار الهدم وصاحبة إصدار رخصة البناء، بيدها تجميل او تشويه المكان وبإمكانها الحفاظ على الفضاء العام.
نصيحتي لمن يقودون مبادرات ان يركزوا في الطرح والنقاش مع المسؤولين على العنوان حماية الموروث الثقافي والتراثي، بالتالي لماذا نذهب باتجاه كم طابقاً تسمح البلديات وفي مواقع سمحت اكثر من الحد المسموح، وبطّلنا نعرف نعيش بين كتل إسمنتية، هذا كله لو كان هناك سوء نوايا من قبل بلدية رام الله مثلاً لاستخدمت هذا الطرح وركزت عليه وأضاعت المباني القديمة، الا أن البلدية معنية تماماً، فأعادت التركيز على الموضوع وقالت: نحن في مركب واحد.