سياسة النفخ

التقاط.PNG
حجم الخط

 

نص المقال أثار جدعون ليفي، الكاتب اليساري الإسرائيلي المعادي للاحتلال، في المقال الذي نشره في هآرتس في 18 فبراير 2018، وأعاد نشره العديد على وسائل التواصل الاجتماعي، تحت عنوان، الفلسطينيون اصعب شعب، سنرحل..... سنرحل؟! أثار هذا المقال أهمية إلقاء الضوء على "سياسة النفخ"، التي يستخدمها الكثيرون في سياساتهم بصفة عامة، وفي تعاملهم مع الشعب الفلسطينيين بصفة خاصة.

فرحت كثيرا عندما "نفخني" دكتور يحي عابد، الاستاذ المؤسس لعلوم الصحة العامة في فلسطين، في عام 1996، عندما عرضت عليه صفحة صغيرة مكتوبة بشق الانفس على الكمبيوتر، الذي كان صعبا وعزيزا في تلك الايام، عن مرض الحمى المالطية، أحد الأمراض التي تنتقل للانسان من خلال الحيوانات ومنتجاتها. عرضت تلك الصفحة على استاذي بناء على نصيحة زميلي في وحدة الوبائيات، الوحدة التي تأسست في وزارة الصحة بناء على توصية المجلس الصحي الفلسطيني، الذي تشكل ليخطط لإقامة أول وزارة صحة فلسطينية، على أثر توقيع اتفاقية أوسلو. رغم أن زميلي لا يؤمن بفائدة الاجتهاد، لأسباب يطول شرحها، وله في ذلك مقولة مشهورة من الصعب ذكرها، الا أنه رافقني في الذهاب إلى مركز البحث الصحي في الطابق العلوي من عيادة الرمال القديمة. تفحص الاستاذ الصفحة باهتمام مبالغ به، وبنبرة جادة، صدقتها، قال الاستاذ: هذا بحث علمي هام نحتاج إلى الكثير من أمثاله في وزارة الصحة.

استخدم الامريكان سياسة النفخ بجدارة واقتدار، وبالغ السياسيون والاعلاميون الامريكان وغيرهم في نشر إمكانيات صدام حسين النووية والكيماوية والصاروخية لأهداف لم تعد خافية على احد في المنطقة.

وعلى نفس هذا النهج، ولاهداف لا تختلف كثيرا، ينفخ الامريكان في قوة إيران العسكرية والنووية، ومقدرة صواريخها وجيش القدس على تدمير إسرائيل وتمزيق بيت العنكبوت، كما يصفة السيد حسن نصرالله؟!

ونفخ الاخوان كثيرا في قدرات الأفغان الإيمانية في حربهم مع الروس، لدرجة أننا صدقنا أن المجاهد الأفغاني يستطيع أن يسقط طائرة الروس الملاحدة، بإشارة من يده او نظرة من عينيه الثاقبة للحجب؟!

هذا النفخ/المبالغات الإيمانية سمعناها مرارا وتكرارا من فوق المنابر، بعد كل انتصار جديد، عن قتال الملائكة مع المجاهدين في بلادنا؟!

عقب العدوان الاخير الذي شنته إسرائيل على غزة في منتصف نوفمبر 2018، صرح الناطق العسكري الإسرائيلي أن الفلسطينيين أطلقوا 460 صاروخا على إسرائيل في مقابل، فقط، 160 صاروخا أطلقتها إسرائيل؟؟؟!!!!!

يعشق الفلسطينيون النفخ، فهل كان يريد جدعون ليفي من مقاله المذكور أن يزيدنا نفخا؟! ليس مهما ما يقوله ليفي او غيره، لكن المهم كيف نفهم نحن هذه الاقوال، وكيف نتعامل معها.

طبعا، لا خلاف على تقييمنا للسيد ليفي، وموقفه الأصيل ضد الحرب والاحتلال ومطالبته حكومات إسرائيل بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم من خلال إنهاء الاحتلال.

كما أننا نفهم جيدا اسلوب استاذنا الدكتور عابد في تشجيعه للباحثين في مجال الصحة، وهدفه النبيل من وراء ذاك. فتشجيع الاستاذ "المبالغ فيه" لتلك الصفحة الصغيرة، جعلتها تكون أول ورقة فلسطينية علمية تنشر بعد سنوات في مجلة منظمة الصحة العالمية في الإقليم، وخلقت من كاتبها، ومن مئات من طلاب الصحة العامة، باحثين مميزين في هذا المجال، لهم أبحاث تعالج مختلف قضايا الصحة العامة في فلسطين.

ليس هناك عيب في القيم التي ذكرها السيد ليفي عن الفلسطينيين، بل انه يؤكد حقائق وقيم يعرفها العالم، كما يعرفها الفلسطينيون جيدا. أن الخلل في المبالغة في فهم مثل هذه المقالات والاراء، والوصول من خلالها إلى استنتاجات ومبالغات ضارة: "انهم سيرحلون عن ارضنا وقدسنا ولكن ليس الى البلدان التي جاؤوا منها بل الى جهنم....." و "عليهم ان يرحلوا قبل ان يأتي يوم لا يستطيعون فيه الرحيل". "عندما نمتلك صواريخهم سنضعهم تحت الاقدام".......

أن هدف إسرائيل واعلامها من المبالغة في كل ما تنشره بخصوص القوة الفلسطينية وفي عدد "الصواريخ" الفلسطينية وقوتها التدميرية الهائلة، والخوف الإسرائيلي المبالغ فيه، واعتبار كل قذيفة، بما فيها قذيفة الهاون، صاروخا، ومقارنة صاروخهم الذي يحمل الأطنان من المواد المدمرة التي ترج الأرض رجا، مع صاروخنا المتواضع، لهو تضليل متعمد يهدف إلى تصوير الشعب الفلسطيني بأنه هو الجهة المعتدية على إسرائيل، وان إسرائيل فقط تدافع عن نفسها في وجه قوة الفلسطينيين "الغاشمة"؟!، فهل يجوز أن نعوم على شبر ميه، ونطرب لمثل هذه التصريحات، ونفرح بها ونروجها، ام المطلوب سياسة إعلامية حكيمة تعرف كيف تخاطب العالم؟.

ان هذه المبالغات والانتصارات الوهمية، التي نطرب كثيرها لها ولكثير من امثالها، تعبر عن ما نعاني منه من عقد العجز والتضليل والذنب لتعويضنا عن كثير مما نفتقده من حقائق على الارض. انه القصور والعجز عن التغيير الذي يأخذنا بعيدا الى صناعة الاوهام والافلام الكرتونية، كما عبر عن ذلك أحد الاصدقاء.

علينا أن نفخر بالحقائق التي أوردها السيد ليفي، أو أي أحد غيره، لكن وفقا لفهمنا وتحليلنا لما يقولون، دون خداع للنفس او طرب لكل كلمة يتفوه بها هذا الكاتب او ذاك المغرض.

ان صمود شعبنا ومقدرته على مواصلة النضال، لأكثر من قرن من الزمان، ومواجهة القوة الصهيونية المدعومة من الإمبريالية العالمية، وهي في أوج انتصارها، والتهجير والطرد من الأرض الذي تعرض له، والتنكيل الذي مورس بحقه، كل ذلك وغيره، لم يثنه عن مواصلة النضال، إما صامدا فوق أرضه او مشتاقا للعودة إليها.

أن هذا التاريخ النضالي الطويل يتطلب منا الخروج من سياساتنا غير الواقعية، والالتزام بالعلم والموضوعية في التعاطي مع مختلف الأحداث والسياسات من أجل تحقيق انجازات مادية علي الأرض، يستحقها هذا الشعب المناضل، الذي لن يرفع الراية البيضاء.