المتوكل طه : مسرحية " قهوة زَعترة" نوستالجيا الضحك والبكاء

التقاط.PNG
حجم الخط

حسام أبو عيشة ، المسرحيّ المخضرم، خفيف الظلّ ، ابن القدس العتيقة، يحمل المنصّة، ويضعها أمام جمهور المسرح وهي تمور بكاميرا الكلام التي استطاعت أن تُصوّر باقتدارٍ وحذاقةٍ مقطعاً تاريخياً عاشته المدينة أيام كانت القدس قدساً، لتُظهِرَ، من خلال شريطها العريض، الحياةَ التي كانت تضجُّ بها المدينة قبل احتلالها وبعده.

 

كأنّ الفنان هنا يكسر الكأسَ المالحة التي تشربها المدينةُ ونشربها معها، ليقدّم لنا شراباً حلو المذاق استحضره من تلك الأيام التي كانت تُضفضف بها طرقات القدس وأزقّتها.

 

والبداية أنّ صالح أبو عيشة اللداوي، النادل في مقهى زعترة في قلب المدينة، هو محور الحكاية، ويتوالد هذا القهوجيّ على الرّكح عبر بطل المسرحية، لنتعرّف إلى العديد من الشخصيات المقدسية الإحدى والعشرين التي تؤدّي دورها وتُكمل حواراتها، كلٌّ بلغته الجسدية ونغمة صوته، لنخرج في النهاية بحصيلةٍ عارمةٍ شديدة الاختصار والفكاهة والواقعية الحرفيّة ، الأمر الذي يضع القدس تحت عينَي المُتلقّي، فيتعرّف إلى المدينة باباً باباً وشارعاً فزقاقاً فمحلاً فبيتاً.. إلخ، ثم نرى تلك الشخصيات في أماكنها وحركتها، وتصادي نقاشاتها، فنعرف أنّ القدس قبل الاحتلال كانت أبوابها الرحيمة تفتح قلبها للمصلّين تحت الصنوبر والنارنج، مثلما كانت بيوتها تزاوج البنفسج بالنور، كما أنّ محلاتها كانت تفيض بالقمر على وجوه رُوّادها، وتبقى مأنوسةً بقناديل الفضّة والأُلفة، وتزخر أقواسها بالدوالي، وتندلع شرفاتها بضفائر اللبلاب وأزرار المجنونة والفوحان، وتسطع مصاطبها وأحواشها وجدرانها بالبرق والشّهد والعراقة.

 

ولعلّ أهم ما أضاءه حسام في مسرحيته تلك العلاقة التي لا شبيه لها بين الجار المسيحيّ الذي يُعلّم القرآن الكريم لجاره الأُمّيّ، والذي بدوره يحمل الصليب ويضعه في غرفة نومه ليصلّي جاره المسيحيّ فيها.

 

كما أنّ تفاصيل الأيام المقدسية الزّاخرة بالعبق والأصالة رأيناها مُتجلّيةً في أُمسيات رمضان والحكواتي، وفي ذلك الإيقاع السلس الدافئ لحياة الناس وتماهيهم وكأنهم أًسرةٌ واحدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن رجالات القدس على تمايُزهم الاجتماعي، ينتظمون في خيطٍ ذهبيٍّ سرّيٍّ ليُطبق على عنق الاحتلال ويخنقه.

 

لقد كانت أياماً مجيدةً تلك التي نهضت فيها القدس ! وأغلقت أبوابها في وجه الغازي الكريه ، وألحفت على أن لا تُمكّن الاحتلال من لوزتها الخضراء، فلامَسَنا زَغبُ حريرها، مثلما لم تُقدّمْ ظِلال القرنفل وعرائش الورد الأحمر للمحتلّين .

 

ويُحسَب للمسرحية أن رَبّة المدائن البيضاء، القدس ، لم تخلُ تماماً من تلك الطبقيّة والتفاوت الاجتماعي اللذين كانا ينعكسان بظلّهما الثقيل على المدينة، لكنّ ذلك لم يمنع من أن ينخرط الجميع في جبهة مواجهة الاحتلال.

 

إن حسام في هذه المسرحية نزف مثل كمنجةٍ وهّاجة، وكان صريحاً، ولم يفتعل أو يُبالغ، ولم يسعَ إلى تنقية التاريخ ، فقد أخذ بأيدينا ومشينا معه ، ورأينا كيف تحوّلت قهوة زعترة التي كانت حاضنةً شعبيةً وباباً لمواجهة الاحتلال، وأصبحت دُكّاناً لبيع ألعاب الأطفال!

 

والفنان، الذي أضاء لنا بهاءَ القدس ويومياتها الهانئة الماتعة المتكاتفة المُكلّلة بالسكينة والمحبّة، ينقلنا عبر تدّرجٍ تاريخيّ وتَنَامٍ دارميٍّ إلى القدس اليوم، التي تُغطّي الزهورُ السوداءُ طرْحَتها.

 

إن هذه المسرحيةَ، التي تنتمي الى الميلودراما، وهو شكلٌ يكاد يكون جديداً ضمن نظريات المسرح المعاصر، لم تُعجز الفنان من أن يُقدّم لنا مشهديةً أو سرديةً مكثّفةً، على رغم انعدام الموسيقى والمؤثرات الصوتية، إلى جانب الديكور المُتقشّف وحيادية الضوء، وذلك لأنّ حسام أبو عيشة كان مثل روبنسون كروزو وحيداً على المنصّة، غير أنه استطاع أن ينقل لنا كلّ ما ذكرنا عبر قدراته الصوتية ولغته الجسدية غير المبالَغ فيها والهادئة والبعيدة عن الوعظ والافتعال، ما يعني أننا أمام مُبدعٍ قادرٍ بأدواته الذاتية على أنْ يُفجّرَ فينا كلّ ذلك الحنين، مثلما جعلنا نضحك بأناقةٍ مراراً، وأن لا نشردَ لحظةً عنه ، فقد نجح في أن يجذب المشاهد من اللحظة الأولى إلى أن حمل حقيبته الصغيرة، لكنه لم يذهب يائساً أو منكسراً، بل وهو يغني : مُنتصبَ القامة أمشي، مرفوعَ الهامة أمشي، في كفّي قصفةُ زيتونٍ وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي ..

 

هذه المسرحية التي تبدو بسيطةً، وتكاد تكون تلقائيةً وعفويةً، أو أنّ حكواتيّاً ما يُقدّمها لنا بتنغيمٍ مُتعدّدٍ وفَكِه، هي مسرحية تنتمي إلى ما تُسّمى "السهل المُمتنع" من حيث السيناريو والحوار والأداء.

 

شكراً لحسام أبو عيشة، الذي شرَّع لنا النافذة، وقدًّم لنا وردةَ القدس النَّدِيّة ومعها شمعة الملائكة المتحلّقين حول الضوء.

 

شكراَ للمخرج المتمكّن الفنان الأخ كامل الباشا، ولأخي وصديقي المبدع الكبير حسام، فقد نَفَذَتْ رائحة المِسْك العميقة، وتجاوزتَ أسوارَ العنصريين، وكانت خالطت نداءات الباعة والزّعتر والبنّ وشَعر البنات.

 

منذ إحدى وخمسين سنةً لم نرَ قوسَ قزحٍ في سماء المدينة، بل عجاج الدخَانِ والدم والكراهية، فشكراً حسام لأنك انتبهتَ إلى أنّ ثمة جَمَالاً سماويّاً في القدس يُرحّب بنا لندخلها معكَ، وكما يليق بالقدس المُذهلة.