تتيح ملاحظة مجريات الأحداث ومسار تحركات الإدارة الصهيوأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، تكوين تصور يجمع بين المعلن والمضمر في الخطة المزعومة " صفقة القرن"، ولعل تصريحات ونشاطات وإجتماعات إدارة ترامب في الأشهر الأخيرة تحمل في جنباتها ملامح نضوج شبه نهائي لخطة ترامب، وقرب الإعلان عنها مع مطلع العام الجديد، والتي تركز على أمن اسرائيل، والسلام الإقتصادي في الشرق الأوسط كإطار للحــــل.
"جيسون غرينبلات" مساعد الرئيس الأمريكي للمفاوضات الدولية، عبــــر بوضوح عن صيغة الحــــل الذي ترغب إدارة ترامب عرضه على الأطراف، وبـــــدا جلياً في تصريحه بتاريخ 19/ 10/ 2018م، أن خطة السلام التي تعهدها إدارة ترامب لإنهاء الصراع تركز بشكل كبير على أمن اسرائيل مع السعي لأن تكون منصفة للفلسطينين، وفي المقال الأخير لغرينبلات الذي نشره في صحيفة القدس بتاريخ 30/ 11/ 2018م بعنوان: (آن الأوان للقادة الفلسطينيين أن يساعدوا الشعب الفلسطيني) حيث عرض أفكار وحلول ذات منحى اقتصادي، يمكن من خلالها مساعدة الفلسطينيون في خلق اقتصاد مزدهر.
كما أن ذوبان الجليد في العلاقات بين عدد من الأشقاء العرب وإسرائيل وظهورها جهاراً على نحو غير مسبوق، ليس بمعزلة عن " صفقة القرن"، وتسعي الإدارة الإمريكية لإيجاد مزيداً من التقارب ( التطبيع) مع الجارة اسرائيل، وفي مقال غرينبلات الذي نشره بتاريخ 15/ 11/ 2018م بعنوان: (حان وقت العمل من أجل السلام والازدهار في الشرق الاوسط)، محاولاً تضخيم اسرائيل كنموذج اقتصادي تكنولوجي، وكنموذج أمني محترف في مكافحة الإرهاب، وإمكانية إستفادة الجيران من خلال تبادل المنفعة والتعاون الإقتصادي، والتشارك في مواجهة التحديات والتهديدات الإرهابية والإيرانية، وأن دمج اسرائيل ضمن محيط الجوار العربي والتعايش معها من أولويات مصالحكم كدول جوار، وليس المقصود بهذا تخليكم عن الفلسطينين، بل من شأن هذا التقارب أن يمهد الطريق لاتفاق سلام محتمل بين الفلسطينين والإسرائيلين، وأن السلام الإقتصادي من شأنه أن يحقق السلام والازدهار والاستقرار في الشرق الأوسط، بما فيه تحسين حياة الشعب الفلسطيني.
كذلك بدا واضحاً من خلال المتابعة أن رؤية إدارة ترامب لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي تتجاهل حل الدولتين، ولا تتعاطى بالمطلق مع نموذج الدولة الواحدة لشعبين، وهي تسعى لإبتكار صيغ للحل السياسي ما زالت غامضة، تنطلق بها من رؤية نتنياهو واليمين الحاكم في إسرائيل. وأن الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب بنقل السفارة للقدس، وقطع المساعدات عن الفسطينين، ورعايتها للتفاهمات المنفردة بين حماس واسرائيل عبر الوسطاء، والتحريض على الفلسطينين في أروقة الأمم المتحدة، ومحاولة الوقيعة بين الفلسطينين أنفسهم، والصمت المطبق على ما تفعله اسرائيل في القدس والخان الأحمر والتوسع الإستيطاني وحصارغـزة، جميعها اجراءات تكشف النقاب عن شكل الحل الذي ترغب إدارة ترامب تمريره في إطـار ما يسمى ( صفقة القرن). ومن ملاحظة المجريات المعلنة نحاول تسليط الضوء على الخديعة الكبرى ومكامن الخطـــر هــذه:
إن أكذوبة تحقيق (سلام اقتصادي) بمعزلة عن حل سياسي عادل ينهي الإحتلال، يعني مزيداً من التبعية والرضوخ للإحتلال، وأن التنيمة الإقتصادية الحقيقية تتم حين ينال الشعب الفسطيني حريته ويسترد حقوقه وأرضه ويقيم دولته المستقلة، والتي تتيح له الحق والحرية الكاملة في إدارة كافة موارده الإقتصادية، والمشاركة في الأسواق العالمية، والتمثيل في منظمات التجارة والأعمال، واستقطاب الشركات العالمية للسوق الفلسطيني، ولعل بروتوكول باريس الإقتصادي ضمن اوسلو نموذج سيئ للتبعية الإقتصادية، لا يمكن بحال إعادة اجترار تجربة فاشلة من جديد.
ضمن استمرار الإنهيار الإقتصادي والإجتماعي والسياسي جراء مخطط الإنقسام الفلسطيني والذي هدف إلى تدميرالإرادة الوطنية، تسعى الإدارة الإمريكية تمرير مخططها "الحل الإقتصادي"، من خلال كي الوعي الشعبي الفلسطيني، أنه بإمكانكم العيش وتحسين ظروفكم الاقتصادية والمعيشة حتى ولو لم يكن هناك حل سياسي لعدة سنوات قادمة، وأن القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني مسؤولة عن سوء معيشتكم سنوات طويلة، وأن السياسة الفاشلة لقيادتكم لم تصل بكم إلى تحقيق أي شيء وتستمر في دفعكم إلى الوراء بشكل متزايد. ( راجع مقال غرنبيلات الأخير بتاريخ 30/11/ 2018م)
توسيع صيغة السلام الإقتصادي في الشرق الأوسط، والعزف على وتيرة المصالح المشتركة بين دول الجوار، تلك خديعة كبرى، حيث تسعى الإدارة الصهيوامريكية أولاً: اسقاط لاءات العرب تجاه اسرائيل، وأن التطبيع والشراكة والتعاون معها من أولويات مصالحكم، من خلال تسويقها كدولة قوية، مبدعة، مبتكرة، وذات خبرة في مجالات الدفاع ومكافحة الأرهاب، والأمن السايبري، والتكنولوجيا، وتحلية المياة والزراعة، والنقل ...، وثانياً: الإطاحة سياسياً بالقضية الفلسطينية من قضية مركزية إلى مشكلة نزاع كواحدة من ضمن التحديات التي يتطلب من الأشقاء والجيران المساعدة بحلها، وثالثاً: أن القضية الفلسطينية وإن تأخر حلها يجب أن لاتكون عائقاُ من أجل منطقة أكثر استقرارا وازدهارا، وبذلك تكون الإدارة الصهيوامريكية قد نسفت الإجماع العربي حول أولوية قضية فلسطين، وفككت قيود الإلتزام "بمبادرة السلام العربية 2002م " التطبيع مقابل السلام .
العدو اسرائيل بخلاف مايحققه السلام الإقتصادي من اندماج لها في المحيط العربي، سوف تجبي عوائد اقتصاية كبيرة من خلال فتح الأسواق الإستهلاكية العربية أمام منتجاتها، وتوريد المواد الخام منهم إليها، وحول تنمية الأقتصاد الفلسطيني، والحديث عن تشغيل المهرة والعقول في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، ما هو إلا استتثمار خبيث للعقول الفلسطينية يحقق لها قيمة اقتصادية مضافة، ويحمل في جنباته اهداف عدة تتعلق بإنهاء الصراع، ويخال للمتبصر حين يمعن النظر، أن مشروع السلام الإقتصادي هو بالدرجة الأولى يخدم اسرائيل، ويفتح لها الباب على مصراعيه لتولي الصدارة في الشرق الأوسط .
بلا شك أن المنظومة العربية معقدة، والفلسطينية أشد تعقيداً، والكارثة حالة اليأس وفقدان الإرادة الوطنية، جراء حالة التفكك الراهنة في الموقف الفلسطيني، والتي لا تؤهل بحال صياغة رؤية وطنية موحدة يمكن من خلالها التعاطي بحصافة مع المخططات الأمريكية، من خلال استراتيجية مواجهة لتفادي مخاطر الحلول الخبيثة.
ومن المفارقات أن القادة السياسون في بلدنا يبدون، وعلى نحوٍ متزايد غير مؤهلين للتفكير الإستراتيجي، في وقت نحن بأمس الحاجة إليه لإستكشاف مكامن الخطر والتحديات التي تعصف بقضيتنا وشعبنا، ويبدو أن المناوشات الكلامية، والمزايدة، حلت محل الجدل الوطني والتوافق حول السياسات والإستراتيجية، وأصبح المأزق شديد الوضوح – حيث التبعية والإنتهازية والإنزلاق - إلى درجة يبدو معها أنه ليس هناك مفر من الإخفاق الشامل في مواجهة التحديات
من هنا نشير بأن المصلحة العليا للشعب الفلسطيني تقضي أن تتوقف كافة الاطراف عن التعاطي مع أي أدوار أو حلول منفردة، تسهم في تمريرالمخطط، وليتحمل كل طرف من الاطراف المسؤولية التاريخية عما يقوم به، وليكون بمعلوم شعبنا أن تأثيرات دور كل طرف لا تظهر كثيراً في المراحل الأولية للمخطط، وإنما في الصيغة النهائية لنجاح المخطط، وأن الأهداف المضمرة وغير المعلنة لا تصبح جلية إلا عند انجاز المخطط بشكل نهائي، وخير مثال على ذلك انزلاق فتح وحماس ضمن مخطط تناحر الشرعيات ما قبل 2007م، ومآلاته المدمرة الانقسام الفلسطيني، تلك الورطة الكبرى ولا نعرف مخرجاً منها.
وحتى نستطيع بلورة رؤية وطنية موحدة واعية، وإعادة تشكيل موقف عربي موحد، لمواجهة مخطط الإدارة الامريكية، ودرء مخاطره واستثمار أي فرصة لصالحنا، يتطلب أن يهب الشعب الفلسطيني لإنهاء الإنقسام الفلسطيني وإزالة أثاره المدمرة، وإنتاج قيادة بديلة تسطيع شحذ الهمم والأمال، والتي من شأنها استنهاض الإرادة الوطنية كمتطلب رئيس للمواجهة .