معادلة الاحتلال / المقاومة

e3db5db6a68d09a045e3bcb926916e34.jpg
حجم الخط

 

بقدر ما كانت "مسيرة العودة" تنطوي على قدر من مواجهة العنف الإسرائيلي، إلا أنها كحراك شعبي، ساهمت إلى حد ما في تفريغ الاحتقان المزمن والمتواصل والمتجذر داخل نفوس المواطنين الفلسطينيين على الاحتلال الإسرائيلي الذي يذيقهم منذ عقود كل أصناف العذاب والقهر والذل، بل ويحرمهم أبسط حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة، وقد ظهر ذلك جلياً حين اندلعت المواجهة العسكرية بين المقاومة في غزة وجيش الاحتلال الإسرائيلي، الشهر الماضي، عقب اكتشاف المجموعة الأمنية الإسرائيلية التي دخلت خان يونس لتبديل كاميرات المراقبة، حيث أدى الاشتباك إلى استشهاد سبعة عناصر من "حماس" ومقتل قائد العملية الضابط الإسرائيلي.
كان رد "المقاومة" جماعياً أولاً ومحسوباً ثانياً، وعلى تنسيق تام مع المستوى السياسي، الذي كان بدوره يتابع تطورات المواجهة العسكرية مع الوسيط المصري، الذي نجح قبل مرور 48 ساعة في احتواء الموقف المتوتر ومنع اندلاع حرب رابعة بين غزة وإسرائيل.
لكن الأمر يبدو أنه صار معكوساً في الضفة الغربية، حيث إن الاحتقان متواصل ويتزايد يوماً بعد يوم، في حين أن "تنفيس" هذا الاحتقان عبر الحراك الشعبي مثلاً، أو عبر انتفاضة شعبية، مسيرات واحتجاجات، وما إلى ذلك، على أقل تقدير كما كان يحدث في مواجهة إقامة جدار الفصل العنصري، كل ذلك غير موجود الآن، ورغم أن الإشارات التي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية كانت واضحة، إلا أن قصر النظر وانعدام الرؤية لدى الحكومة الإسرائيلية المتطرفة جعلها لا ترى ما هو مكتوب على الجدار كما يقولون، فلم تدق انتفاضة السكاكين قبل نحو أربعة أعوام ناقوس الخطر، كما لم تدفع هبة الصلاة في الحرم القدسي الشريف، قبل عام ونصف العام، إسرائيل إلى تغيير سياستها، بإشاعة الأمل بوجود حل في نهاية المطاف يبقي على سياسة الصبر التي تنتهجها القيادة الفلسطينية مقبولة، خاصة لدى الشباب الفلسطيني المتوثب الطامح للعيش في حياة أفضل.
بل إن الأمر زاد سوءاً مع حماقات إدارة البيت الأبيض الأميركي تجاه القدس وتجاه كل بنود ملف الصراع، كذلك أعمت الاختراقات في جدار الصد العربي الرسمي عيون بنيامين نتنياهو وجعلته يعتقد أن "تظهير الاحتلال" والإبقاء عليه يمكن أن يستمر إلى الأبد، ويضمن أمن إسرائيل بل ويهوديتها وكل مفردات التطرف والتمييز العنصري التي يحتويها قاموسها السياسي.
وخلال أسبوع مضى، وعلى عادة إسرائيل التي تواجه واقع الاحتلال بالمعالجة الأمنية فقط، هجم الجيش الإسرائيلي على ما تبقى من مظاهر، ليس لسيادة السلطة في مناطق ولايتها المحدودة وحسب، بل وعلى رموز وجودها كسلطة، وكأنه يدفعها دفعاً للإعلان عن الإلغاء الرسمي لاتفاقيات أوسلو وقطع التنسيق الأمني تماماً وبالكامل وبكل أشكاله معها. ولم تتدخل الحكومة الإسرائيلية قيد أنملة للجم ما يظهره المستوطنون من مظاهر فاشية، إن كان بحرق منازل الفلسطينيين أو بإطلاق النار المميت عليهم أو حرق سياراتهم، ولا حتى بالتحريض على الرئيس نفسه بالقتل.
الهجوم الإسرائيلي يكاد يقول إن الفصل الأخير ما هو إلا إعادة احتلال تام لكل الضفة الغربية، وإن الحلم الفلسطيني بتحوّل السلطة إلى دولة قد تبدد، وإنه ليس هناك سوى بضعة أشهر على كلمة النهاية متمثلة بإعلان صفقة ترامب، لإغلاق الملف الفلسطيني على واقع الاحتلال.
لا شك أن إزاحة السلطة الفلسطينية بأجهزتها الأمنية من طريق الاحتلال، ليطلق يديه وأرجله في مواجهة وتصفية الشباب الفلسطيني والدخول إلى كل بيت ومنزل وشارع، كما كانت الحال قبل أوسلو، تعني شيئاً واحداً فقط، وهي العودة إلى معادلة: الاحتلال / المقاومة.
كذلك، فأن يقدم الجيش الإسرائيلي في سابقة ليست خطيرة فقط، بل ونوعية وحاسمة، تتمثل في تصفية المقاومين أو من تسميهم منفذي العمليات ميدانياً وإلى هذا الحد من البشاعة، يطلق مشاعر الحقد والاحتقان على مصراعيها ضد الوجود الاحتلالي الإسرائيلي بشقيه العسكري والاستيطاني معاً.
مختصر القول هو: إن الضفة الغربية أولاً وكذلك القدس ومجمل الوطن الفلسطيني، بل كل الفلسطينيين أينما وجدوا، ما هم اليوم إلا برميل ضغط يغلي، لن يتفاجأ أي عاقل حين يراه ينفجر في أي لحظة قادمة، ولا أحد أيضاً يمكنه أن يتكهن على ما سيكون عليه عود الثقاب أو صاعق التفجير، الذي قد يكون إعلان صفقة ترامب أو اغتيال شخصية من الصف الفلسطيني الأول، أو ارتكاب مجزرة ما بحق عائلة فلسطينية، أو حتى عملية دهس أو قتل جماعي كما حدث في مرات عديدة سابقة.
ولعل إسرائيل وهي منشغلة في معالجة جبهتها الشمالية، تظن مخطئة أن خاصرتها الشرقية أو حتى جبهتها الجنوبية باتت آمنة أو مؤمنة، وهي إن فكرت بهذا تكون مخطئة جداً، فليست بضعة ملايين الدولارات قادرة على تأمين جبهتها الجنوبية، فقد كانت حال الناس قبل العام 1987 جيدة على المستوى المعيشي، لكن ذلك لم يمنع من اندلاع الانتفاضة الكبرى المجيدة، وحيث إن إسرائيل ومعها أميركا تقوم بدفع الجانب الفلسطيني حالياً إلى الوراء حتى التصق ظهره بالحائط، فإن شعباً متمرساً بالكفاح الوطني، حين يصل إلى نقطة لا يجد فيها ما يخسره، فإنه سيحرق الأخضر واليابس، وربما ما هي إلا أيام أو أسابيع أو حتى أشهر قليلة، ويندلع الحريق الكبير وفق شعار "علينا وعلى أعدائنا"، لأنه ببساطة لن يظل الشعب الفلسطيني قابلاً بواقع لا يموت فيه إلا الفلسطينيون فقط.