التمظهر الزائد الهواء الناقص

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

 

يصعب علينا، عند تحليل مشهد المهرجان الحمساوي؛ أن نضع الخيط الرفيع الذي يفصل بين الأسئلة المشروعة عن مجتمع المهرجان، والأسئلة المتعلقة بما وراء التمظهر العسكري الحمساوي في المهرجان نفسه. لذا سنضع جانباً تلك الأسئلة المتعلقة بهذه الثقة الزائدة التي حدث بها التمظهر العسكري الحمساوي، على بعد ثلاثة كيلو مترات من مواقع العدو، وعلى غير ذي بُعد، بالنسبة للطيران ولوسائل الرصد والرشق. فلا مجال للنقاش، في حقيقة أن هذا التمظهر في ظروف المواجهة، ينطوي على الكثير من المسكوت عنه!

فهل هناك تفاهمات تتجاوز حدود التهدئات الهشة، التي يتوصل اليها المصريون مع طرفي الإشتباك، المرة تلو الأخرى؟ أم أن منظمي المهرجان، يعتقدون أن "توازن الرعب" هو الذي حمى التمظهر العسكري الحمساوي، وأن العدو كان يخشى الاعتداء؟

لا ضرورة الآن للتركيز على مثل هذه الأسئلة، ولكن من المفيد التذكير ببعض الذي مر علينا في تجربة "أوسلو" التي بدأت في الواقع، بشكل أردأ مما انتهت اليه، لكن الكلام والخطابات والمناسبات والأضواء والألون، كانت تخدع وتقول غير ذلك.       

ربما تكون إحدى مفارقات أوسلو، مريرة وطريفة،. فعندما بدأت تتسرب أنباء الاتفاق وقبل الإعلان عنه، اقترح وارن كريستوفر، وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، أن يُمنح الطرفان الإسرائيلي والأمريكي، فترة سماح لكي يأخذ كل منهم  راحته في التصريحات والتمظهر، لكي يبتلع الجمهور المتشدد على الجانبين، خازوق الصفقة بسهولة وبشفاعة أحاديث الطنين والعنفوان. فالاتفاق بالنسبة للعنصريين الصهاينة المتطرفين من شاكلة مستوطني الضفة اليوم، يُعتبر كارثة لأن هؤلاء يطالبون بأراض عربية أخرى خارج فلسطين. والأمر كذلك أيضاً بالنسبة للشعب الفلسطيني لذي يرى في التخلي عن أرض الآباء والأجداد، مصيبة كبرى وتنازلاً عن الثوابت، بل عن الثوابت الإفتراضية التي صنعناها بأنفسنا متنفائلين، كإعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر في نوفمبر 1988، وقد حدث ذلك في مهرجان غمرته الأضواء والبهجة القصوى وفاضت فيه الدموع، ثم وجدنا بعدئذٍ، أن من أعلنوا الدولة، وحصلوا على اعترافات بها تفوق عدد الدول التي تعترف بإسرائيل؛ قد حشروا أنفسهم فجأة في صندوق الحكم الذاتي المحدود، في خاصرة إسرائيل. أيامها، في فترة السماح، بدأ سباق التصريحات بين رابين وياسر عرفات، كل منهما يَعِدُ جمهوره بالخير العميم وكان رابين يؤكد على الحذر الشديد وعلى أن الفلسطينيين لن يأخذوا شيئاً ذا قيمة.أما  أبو عمار فقد كان يقول إن الاتفاق هو الطريق الى الدولة والى القدس،فيتذمر رابين ويشكو،  ثم يؤكد على أن الفلسطينيين لن يتسلموا الأمن على متر من المعابر والشواطيء والطرق الرئيسية، وأن المفاوض الإسرائيلي يتعامل مع ناس وليس مع أرض، وقد تكون لهؤلاء الناس بعض الحقوق، ولكن لن تكون لهم ذرة من السيادة. فهم ذاهبون الى جيب محصور، في خاصرة إسرائيل، محاط بقوات جيشنا من كل جانب.  بل إن المال الذي سيتدفق على سلطة الحكم الذاتي، لن يُعطى لها مباشرة، لكي لا تصرفها قيادة الفلسطينيين كما كانت تصرف الأموال العربية..

ومقابل مثل هذا الكلام، كان أبو عمار يقدم الصورة تلو الأخرى عن السيادة، بالشكل الذي يُرضي الناس، بينما وارن كريستوفر يتلقى الشكاوي من الطرفين عن التصريحات، ويبت فيها كرجل محامٍ في الأصل، وحدث الاصطدام عندما وقف الطرفان أمام أولى الحقائق: وضع المعابر، عدد أفراد الشرطة، ونوع التسليح وشكل جواز السفر، والحق في الجنسية!

لا مجال للنيل من المقاومة والمقاومين الشجعان، لكن مشهد المهرجان الحمساوي الأخير، يفتح باب الأسئلة، إذ تخطى مستوى تعبير الجماهير عن موقفها المؤيد لحق الدفاع عن النفس، وطغى عليه نوع من التمظهر العسكري الزائد في اللغة وفي الأستعراض، وكان واضحاً أن المتحدث الرئيسي، يأنس لنفسه الأمن المؤكد، في ساحة مكشوفة، تحت سماء غير آمنة افتراضاً.

لا ولن نقول إن هناك تواطؤ، أو إن هناك "تنسيقاً"، ولكننا نجزم أن هناك أفقاً جديداً وترتيبات قادمة. فمن كان يتوهم أنه يستطيع استغلال الجذر "الإخواني" لحماس، لكي يشيطنها ويغلق في وجهها طريق المناورات والحركة السياسية، سيرى غداً أنها تفوقت عليه، حتى فيما يؤخذ عليه، إذ لن يستطيع الهجوم بحكم كونه غارقاً في جنس العمل. لكن الفارق، أن الواهم بل هو الذي هزم نفسه، برعونته وبلغته الدونية وباستهدافه الفظ لعمقه التنظيمي والاجتماعي، وباستهتاره بالحركة الوطنية وبتدمير مؤسساتها. أما "الجماعة" في غزة، فإنهم يغادرون فضاء المهرجان الصاخب، بألوانه الخضراء وخوذات المغاوير وصواريخهم ولغة الطنين التي تُرعد؛ ويذهبون تحت سماء آمنة، الى تسوية ما،  ستكون قطعاً أردأ من أوسلو، وعلى النحو الذي لن يرضاه الوطنيون، لكنها أحس بكثير، بالنسبة لمن وقعت في رؤوسهم، في الزمن العباسي، فأس البؤس والإفقار والعذاب!

إن غير ذلك من التفسيرات، ليس لها معنى، وواجبنا أن نتحاشى الإسهاب في الكلام بمفردات التحليل العسكري، في هذه اللحظة المشحونة بعاطفة غامرة، لا تستند الى أي واقع صحي، إجتماعياُ واقتصادياً وسياسياً. لقد حدث التمظهر العسكري الزائد في مناخ الهواء الناقص!