صحيح أن الوجود العسكري الأميركي في سورية، يعتبر وجوداً رمزياً إلى حدود بعيدة، حيث لا يزيد تعداد تلك القوات على ألفي جندي متواجدين في شمال سورية، دخلوا المنطقة حين بدأ الجيش العراقي قبل نحو عامين حملته لطرد «داعش» من الموصل والشمال الغربي العراقي، لدعم قوات حماية الشعب الكردية، أو ما سمي حينها قوات سورية الديمقراطية، وكان واضحاً أن واشنطن تسعى في ذلك الوقت، لإخراج الجيب الكردي في الشمال السوري، من عملية إعادة سيطرة النظام على البلاد، خاصة بعد حسمه لمعركة حلب لصالحه، في تكرار لما حدث بالعراق، أي أقامة «دويلة كردية» في سورية على غرار تلك التي في العراق، خاصة أن ذلك كان قد ترافق مع طرح فكرة الفدرالية السورية على غرار الفدرالية العراقية.
أي أن الوجود العسكري الأميركي في سورية، لا يعتبر عامل حسم ميداني، ولا حتى لاعباً أساسياً في معادلة الواقع العسكري الميداني كما هي حال الوجود الروسي أو التركي أو الإيراني، لكن الصحيح أيضاً هو أن وصول القوات التركية إلى مقربة من تلك المنطقة، يعتبر بمثابة حماية للأكراد في تلك المنطقة، خاصة مع اعتبار تركيا أن قوات حماية الشعب الكردية تتبع حزب أوجلان، وهي تعلن عنها قوات إرهابية، ما يعني أن تركيا ستتقدم من أجل سحق تلك القوات، والسيطرة على المنطقة.
وبالنظر إلى أن الوجود الأميركي في العراق بعد التدخل العسكري بإسقاط نظام صدام حسين، لم يجعل من العراق بلداً في جيب واشنطن، بل جعل من طهران أكثر تأثيراً على بغداد من واشنطن، نظراً لعوامل داخلية عديدة، فإن الولايات المتحدة، التي لم تحقق نفوذاً في سورية، بقدر ما حققته في العراق، بإعلانها الانسحاب الرسمي من سورية، إنما تخرج من المنطقة إلى حد كبير، أو على الأقل لا تبدي طموحاً بتعزيز وجودها، كما لو كانت الدولة العظمى الوحيدة في العالم، أو المتحكم الوحيد في الشرق الأوسط.
وقد كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب واضحاً، قبل عدة أسابيع، حين قال: إن النفط لم يعد دافعاً للوجود الأميركي في المنطقة، وإن إسرائيل فقط هي مبرر الوجود الأميركي الوحيد الآن في الشرق الأوسط، وهذا يفسر، بتقديرنا، التدخل الأميركي الفظ والسافر إلى حدود التطابق التام مع التطاول الإسرائيلي اليميني المتطرف على الحقوق الوطنية الفلسطينية، لدرجة أن تعلن نيكي هايلي المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، أن صفقة ترامب تتضمن الاعتراف بتغير الواقع لدرجة الاعتراف بالمستوطنات كجزء من دولة إسرائيل، وبحق إسرائيل في الوجود بغور الأردن من أجل حماية أمنها!
وهذا يعني أن الوجود الأميركي الاستعماري في الشرق الأوسط كله، بات مرتبطاً بإقفال الملف الفلسطيني وفق المشيئة والرغبة اليمينية الإسرائيلية المتطرفة على أساس «تظهير الاحتلال» وتحرير إسرائيل من أعبائه، بإخراج القدس واللاجئين والأرض والحدود من معادلة الحل، وإنجاز الحل الاحتلالي بفرض التسوية المجحفة على الشعب الفلسطيني.
وبالضبط الوصول إلى هذه النقطة الفاصلة، يعني أن كل السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط قد تلخصت أو تركزت في هذه النقطة، وأن إلحاق الهزيمة بها وإخراجها تماماً من المنطقة تجر أذيال الخيبة إنما يعني باختصار وبشكل محدد وبسيط، هو رد صفقة القرن لها، وعدم تمريرها وإفشالها بكل الطرق والوسائل والأساليب. ولعل من حسن حظ المنطقة وفلسطين، أن لحظة التراجع والخروج الأميركي من المنطقة، هي ذاتها لحظة الدخول لقوى عظمى وقوى إقليمية عديدة، على معادلاته الداخلية، بما يحد من جماح الطموح الإسرائيلي في التوسع والسيطرة، والذي يغريه في ذلك تحقيقها لهدف إفراغ القوس العربي المحيط بها من عوامل القوة العسكرية، بعد إضعاف دول الطوق، إن كان بالمعاهدات أو بالتدمير أو حتى بإشغال من تبقى بحروب داخلية حرقت الأخضر واليابس، وشلّت القدرات العسكرية والاقتصادية لمعظم الدول العربية المركزية أو المهمة في محيط إسرائيل.
إسرائيل، بتقديرنا، باتت جاهزة، على عكس حال الأكراد إن كانوا في سورية أو العراق، للاعتماد على نفسها والاستغناء عن الولايات المتحدة، إن كان عسكرياً أو اقتصادياً، وإن كانت ستظل واشنطن تدعم سياسياً دولة الاحتلال، لكن قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية، تصطدم بقوة روسيا وبقوة إيران وتركيا، لذا فإن حالة التوازن بين هذه القوى، ستحد من طموح إسرائيل بفرض ما تشاء على دول المنطقة، لذا فهي ستكتفي بالتوصل إلى صفقة مع هؤلاء، تكتفي فيها باعترافهم بجعل الملف الفلسطيني ملفاً داخلياً، تعالجه هي دون تدخل من أحد، مقابل إقرارها وقبولها بالنفوذ الإيراني في العراق والروسي والتركي في سورية، مثلاً، فيما يظل طموح الفوز بثروات الخليج العربي، هو الهدف الإسرائيلي/الأميركي المشترك.
يبقى إذاً مآل صفقة القرن هو المفصل، وحيث إن الانقسام الفلسطيني الداخلي، هو بوابة الولوج لتلك الصفقة من الخاصرة الفلسطينية الضعيفة، فإن الشد بين القاهرة والدوحة في هذا الملف والذي عطل أو منع إنجازه حتى اللحظة، قد يشجع اللاعب الروسي الذي شيئاً فشيئاً، يتحول إلى اللاعب الرئيسي أو الأهم في الشرق الأوسط، على التدخل المباشر والحاسم من أجل تحقيق المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي.
لذا فإن دعوة موسكو لإسماعيل هنية، قد تكون مفتاح تحقيق هذا السيناريو، فيما يعتبر ذلك سباقاً مع الزمن، مع إعلان واشنطن نيتها طرح صفقتها خلال شهرين أو ثلاثة، لذا فإن «حرباً سياسية» ستبدأ خلال الأيام القادمة بين محاولة موسكو إنهاء الانقسام وبين محاولة واشنطن إعلان خطة قرنها المشؤومة.
عن وهم الاستفاقة في الإقليم!
22 سبتمبر 2025
