ترامب يترك سورية.. لماذا الآن؟

f11bde1a4fbaaf398f8454952bb25bba.jpg
حجم الخط

 

أثار قرار انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من سورية موجةً من التساؤلات في وسائل الإعلام وبين المتابعين للشأن السوري حول مغزى هذا القرار المفاجئ الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تغريدة قال فيها: إن تنظيم «داعش» الإرهابي هُزم.
ترامب كان في السابق قد ربط بين سحب قواته من سورية بالقضاء التام على «داعش»، غير أن الإستراتيجية الأميركية تبدلت وبدت أكثر وضوحاً حين ارتبطت بمجموعة من العوامل، مع تحول في الموقف إلى رغبة بالبقاء داخل سورية لأجل غير مسمى.
قبل إعلان ترامب هذا، صرّح مسؤولون أميركيون ومن بينهم المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، بأن واشنطن لا تريد التخلص من الرئيس بشار الأسد ولا تتحدث عن تغيير النظام، لكنها تريد نظاماً سورياً مختلفاً وجوهرياً، في الوقت الذي تشهد فيه البلاد صراعاً بين القوى الكبرى.
جيفري عدّد الدول الخمس التي تعمل داخل سورية وهي: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل، وربط بين موضوع سحب القوات الأميركية بتحقيق ثلاثة أهداف، الأول القضاء التام على تنظيم «داعش»، وثانياً إعمال قرار الأمم المتحدة 2254 حول سورية، وثالثاً إنهاء الوجود الإيراني هناك.
كل التصريحات الأميركية كانت تتمحور في هدفين رئيسيين: إنهاء «داعش» وإنهاء الوجود الإيراني. غير أن قرار ترامب تجاوز هذين الهدفين كون تنظيم «داعش» لا يزال حاضراً في سورية وهناك تقديرات أميركية تفيد بوجود حوالى 14 ألف مسلح «داعشي»، وأما بخصوص إيران فهي لم تغب يوماً عن الساحة السورية منذ بداية النزاع أوائل 2011.
إذاً ما الذي جعل الرئيس ترامب هكذا ودون سابق إنذار يعلن سحب القوات الأميركية التي تتمركز تحديداً في الشمال السوري بهدف دعم قوات سورية الديمقراطية التي تترقب بحذر تهديدات تركية بشن عملية عسكرية تستهدف الأكراد في شرق الفرات؟
ثمة أسباب جعلت الرئيس الأميركي يقرر سحب قواته البالغ عددها حوالى 2000 جندي في غضون أربعة أشهر على أبعد تقدير، علماً أن هذا القرار أثار موجةً من الاستياء في صفوف الجمهوريين أصحاب ترامب، واصفين القرار بأنه هدية لروسيا وسورية الأسد وإيران وتخلٍ عن حلفاء واشنطن قوات سورية الديمقراطية، في الوقت الذي يصرون فيه على أن «داعش» لا يزال حياً.
ترامب عوّد الجميع على قرارات مفاجئة وهذا لم يتصل بالشأن السوري فحسب بل في قضايا تمس الشأن الأميركي الداخلي وأخرى دولية، وعلى ما يبدو أنه أعلن هذا القرار للتشويش على موجة الغضب العارم إزاء سياساته وإدارته للأزمات سواء مع الصين أو شركائه الأوروبيين والعرب، ناهيك عن علاقة ترامب المتشنجة مع إدارته التي اختلف مع كبيرها وصغيرها.
ربما جاء القرار في الوقت الحالي حتى يصرف انتباه السياسيين في مجلسي الشيوخ والنواب حول إخفاقاته (ترامب) في إدارة ملفات حساسة، وحتى يثير ضجةً في وسائل الإعلام وبين الرأي العام عن دوافع الانسحاب.
على الصعيد الخارجي، هناك ربما مجموعة من العوامل التي دفعت إلى هذا الانسحاب، أولها يتعلق بطبيعة العلاقة بين واشنطن وأنقرة على خلفية دعم الأولى أكراد سورية الذين يسيطرون على حوالى 20% من المساحة الإجمالية لسورية.
الأتراك كثيراً ما أبدوا قلقهم من الدعم الأميركي للأكراد وتخوفوا من أن تبيعهم واشنطن لصالح إيجاد حزام كردي متواصل في الشمال السوري يهدد السيادة التركية وربما يؤسس لنواة كردية سورية مستقلة مرتبطة بعلاقات قوية مع أكراد تركيا.
الرئيس التركي أردوغان رفض دعم الأميركان للأكراد وأبلغ نظيره ترامب أن أنقرة ستفعل المستحيل من أجل إزالة التهديد الكردي في سورية، حتى أنه أطلق في الماضي عملية عسكرية لاستهداف الأكراد في الشمال، وهو ينوي الآن إطلاق واحدة لإبعاد التهديد الكردي شرق الفرات.
لا بد من الربط بين قرار الانسحاب والمكالمة الهاتفية التي جرت مؤخراً بين أردوغان وترامب، حيث قال الأول: إن الثاني متفهم للتخوفات التركية الأمنية ودوافع شن عملية عسكرية شرق الفرات، وربما ضحى الرئيس الأميركي بقوات سورية الديمقراطية في سبيل عدم التخلي عن العلاقة الإستراتيجية التي تربط بلاده بأنقرة.
عامل آخر مرتبط بالأول وهو أن واشنطن ربما بدا لها أنها غير قادرة على دعم قوات سورية الديمقراطية في إطار مسألتين: الأولى تتصل بالعلاقة مع تركيا والحفاظ عليها، والثاني يتصل بالدعم الروسي للنظام السوري لاستعادة كامل الأراضي بما فيها تلك التي يسيطر عليها الأكراد في الشمال.
أيضاً هناك عامل يتعلق بإجراءات السلامة الوقائية، وقد يكون القرار الأميركي السريع فعل استباقي لحفظ ماء الوجه، ربما انطلاقاً من ترسخ قناعة أميركية بأن اللعبة في سورية انتهت، وهذا يتقاطع مع تصريحات السفير الأميركي السابق في سورية، روبرت فورد، الذي توقع قبل عام ونصف العام تقريباً، أن تعجز بلاده عن الصمود أمام إيران في سورية، قائلاً: إن ترامب لا يعرف أن اللعبة انتهت.
لعل هذه الأسباب وأخرى هي التي دفعت بالرئيس الأميركي إلى قرار الانسحاب من سورية، لكن هذا القرار بالتأكيد سيمس حليفين مهمين: الأول جديد والثاني إستراتيجي، حيث إنه سيقضي تماماً على أحلام أكراد سورية بفرصة وجود حكم ذاتي في الشمال السوري.
كان يفترض على قوات سورية الديمقراطية أن تستخلص العبر والدروس من الدعم الأميركي للمعارضة السورية المعتدلة ومن ثم التخلي عنهم وتركهم لقمة سائغة للقوات الحكومية السورية، وتخلي واشنطن هذا عن الأكراد قد يحصر خياراتهم ويدفعهم لفتح باب الحوار مع النظام السوري بهدف تحقيق الحد الأدنى لمصالحهم.
الحليف الإستراتيجي إسرائيل أيضاً يبدو أنه خسر الدعم الأميركي بإبقاء وجوده في سورية، على اعتبار أن تل أبيب كانت تضغط كل الوقت من أجل ربط هذا الوجود الأميركي بسحب إيران قواتها وإنهاء وجودها من سورية.
المعادلة اختلفت الآن، لكن حتماً ستجد إسرائيل ضالتها وقد تحقق كل مصالحها أو الحد المعقول منها، لأنها لا تزال تراهن على علاقتها الطيبة مع روسيا بصرف النظر عن التوترات الأخيرة، وموسكو بطبيعة الحال ستستفيد من هذه العلاقة بما يحقق مصالحها.
أخيراً يبقى القول: إن واشنطن حتى لو سحبت قواتها من سورية، لا يزال وجودها قوياً في الشرق الأوسط، ويكفي أنها حاضرة على الحدود العراقية - السورية بأكثر من 5000 جندي أميركي، ولذلك لا يزال هناك سقف للمساومات حول رحيلها عن سورية ووجودها الآخر في العراق.