اليسار وتَبعات الاستنساخ

55.PNG
حجم الخط

 

عانى اليسار الاشتراكيّ العربيّ، بشقّيه الشيوعيّ واليساري الجديد، مشكلاتٍ ثلاثاً لعبت نتائجُها ضدّه؛ حين أفقدتْه جمهورَه وتأثيره في المحيط الاجتماعيّ، ودفعت به إلى انحسارٍ مديدٍ ما لبث أنِ استحال إلى اضمحلال. والمشكلات تلك هي: سوء تقدير مكانة المسألتين الوطنيّة والقوميّة في الوعي الجمْعيّ؛ وتجاهُل المسألة الديمقراطيّة وما تفتحه أمام العمل السياسيّ من ممكنات ذاتِ عوائدَ إيجابيّةٍ عليه؛ ثم إهمال مسألة الدين وصلاتِ السياسيّ بالدينيّ في المجتمعات العربيّة والحياة العامّة.

ولم يكن بعضُه القليل قد بدأ ينتبه إلى التبعات الفادحة لهذه الأخطاء، فيحاول استدراكها بالتصويب والتعديل، حتى كان أكثر اليسار قد خرج من مسرح التأثير، ثم أتى انهيار «الاشتراكيّة» السوفييتيّة ونسخها الأورو-شرقيّة يضع فصلاً ختاميّاً لعهده السياسيّ، في الوقت عينِه الذي كانت فيه قوى «الإسلام الحزبي» على موعدٍ مع لحظة العنفوان والظهور على غيرها من القوى السياسيّة. 
كيف حصل أن سقط اليسار في موقفِ غيرِ الآبه للقضايا الكبرى الثلاث المومأ إليها؛ هو الذي انتدب نفسه، منذ النشأة، ليكون القوّة الأشمل تعبيراً عن قضايا الشعب وطبقاته الكادحة؟ في أصل هذه السقطة ينتصب سببٌ «فكريّ» قاده إلى ما قاده من سوء تقدير. ونعني بالسبب ذاك جملةً من المقدّمات النظريّة (المستخلصة من نصوص الماركسيّين الأوائل في الغرب، أو من تجارب بعض الأحزاب الشيوعيّة في العالم من غير العاملة في بلدان الجنوب) اعتمدها منطلقاتٍ للتحليل و بالتالي، عليها بَنَى سياساتِه وبرامجَه وأولويّاته ومواقفَه وعملَه الدّعويّ والتعبويّ.

وهو إذ أصاب التقدير في واحدة من المقدّمات النظريّة تلك - من دون أن يصيب نجاحاً في حُسن استثمارها سياسياً - أخطأ في البواقي. والمقدّمات النظريّة التي انطلق منها أربعٌ: أولاها؛ مركزيّة المسألة الاجتماعيّة في أيّ مشروعٍ للتغيير الاجتماعيّ وأولويَّتها على أيّ مسألة أخرى من المسائل؛ وثانيتها؛ أنّ المسألتيْن الوطنيّة والقوميّة مطروحتان على جدول أعمال القوى البرجوازيّة لارتباطهما بمسألة السوق القوميّة والتوحيد القوميّ البرجوازيّ للأوطان؛ وثالثتها؛ أنّ المسألة الديمقراطيّة جزءٌ من المشروع البرجوازيّ الليبراليّ، فيما الديمقراطيّة الجديرة بالنضال من أجلها هي الديمقراطيّة الشعبيّة، أو الديمقراطيّة المباشرة (التي هي الاشتراكيّة) لا الديمقراطيّة التمثيليّة؛ ورابعُتها؛ أنّ الدين جزء من ماضٍ ينسحب أمام العلم والمعرفة، وهو أداةُ القوى المحافظة والرجعيّة في مواجهتها لقوى التقدّم. 
هل من ارتكابات أفدح من ترك الدين للمحافظين يتلاعبون به وبالمؤمنين (الجماهير)، فيقيمون به - وعليه- دكاكين سياسيّة ستقذف الشيوعيّين بالتهمة القاضية: الإلحاد؟ وهل من ارتكابات أفدح من أن تقف أحزابٌ شيوعيّة عربيّة عدّة ضدّ استقلال أوطانها من الاحتلال الاستعماريّ؛ بتعلّة الحاجة إلى انتظار انتصار البروليتاريا و«أحزابها» في الغرب؛ كي تنال منها ذلك الاستقلال؟ وهل من ارتكابات أفدح من أن تؤيّد الأحزاب الشيوعيّة قرار تقسيم فلسطين؛ فقط لأنه قرار شاركت موسكو في وضعه؟! وهل من ارتكابات أفدح من مناهضة الوحدة المصريّة-السوريّة أو إبداء الارتياح للانفصال؟ وهل من ارتكابات أفدح من التعويل على تحرّر «البروليتاريا الإسرائيليّة» شرطاً لحلّ قضيّة فلسطين بين العرب واليهود؟! كان اليسار الجديد أقلّ سوءاً من اليسار الشيوعيّ في موقفه من المسألتين الوطنيّة والقوميّة؛ أصوله القوميّة شفعت له، لذلك تمسَّك بهما وناضل مع المقاومة الفلسطينيّة، ولكنّ بعضه أخطأ الموقف من المسألة الوطنيّة؛ أمّا أكثر اليسار الجديد فظلّ عن المسألة الدينيّة بمبْعد، متجاهلاً آثارها في السياسة والاجتماع السياسيّ.
غير أنّ رأسمال اليسار الوحيد، الذي صنَع له مقاماً وشأناً (المسألة الاجتماعيّة)، لم يلبث أن بدأ في التبدّد منذ شرع (اليسار) في مصالحته الديمقراطيّةَ على أخطأ نحوٍ صارت فيه عقيدةً له - من ضمن عقائده الليبيراليّة الجديدة التي داهمته، أو داهمت بقاياه، في الثلاثين عاماً الأخيرة - وما عاد يرى في الصورة غيرها. تبخّرت المسألةُ الاجتماعيّة، وحقوق الكادحين، والعدالة، والاشتراكيّة، ولم يَتبقَّ من هدفٍ يُكْتَب عنه أو يناضَل عنه سوى الديمقراطيّة؛ ولكن، هذه المرّة، منظوراً إليها من وجهة نظر ليبراليّةٍ محضة. 
وعندما قُيِّض لليسار العربيّ أن يصل إلى السلطة (في اليمن الجنوبيّ)، وأن يدير دولةً لما يقِلّ قليلاً عن ربع قرن (1967-1990)، فيطبّق «الاشتراكيّة» في البلاد، تمخّضت تجربتُه عن طائفة من التناقضات والمفارقات: «اشتراكيّة» في بلدٍ فقيرٍ معدَم لا طبقة عاملة فيه ولا تراكم رأسماليّ، بل لا طبقات فيه ولا تكوينات اجتماعيّة غير التكوينات «الطبيعيّة» الموروثة (القبيلة)؛ وحزبٌ وسلطةٌ ثوريّان مبناهما على توازنات قبليّة ومناطقيّة كان لها كبيرُ أثرٍ في توليد انقسامات وتناقضات بَدَت - في حينها- إيديولوجيّة من دون أن تكون كذلك. وكانت النتيجة تصفيات داخليّة بلغت ذروتها في العام 1986، وراح ضحيتها ما يقارب العشرين ألفاً من أعضاء «الحزب الاشتراكيّ» الحاكم. ولقد كان المختَبر اليمنيّ (الجنوبيّ) كافياً ليُطْلِع الجميع على نوع المشروع السياسيّ الذي كان يقترحه اليسارُ العربيّ على مجتمعاته!

عن الخليج الإماراتية