الكاتب: خليل توما
((1))
بعد سبعين شتاء عاصفاً
تقترب الأشياء من خط النهايات،
ولا طبلٌ ولا زمرٌ،
وها أنت ابتسمتْ !
سأعود من حيث أتيت،
متلمسا حجر الرصيفْ،
لا تسعف الكلمات عكازي وفي هذا النزيفْ
في غابة الأشواك في الحفر التي
آوت إليها في ليالي الثلج أوراقَ الخريفْ،
ما زال عصفور يجدد لحنه وفحيح أفعى،
هل للطلاسم أن تفك إزارها للريح ِ
إذ تسعى القوافل نحو أسوار الضباب فلا تعود،
لا تُطرَق الأبواب في مدن الضبابِ
مرحبٌ بالقادمين،
فلتبحثوا عن مهجع فهنا الأقارب والصحاب،
كل كما شاءت له أوصافه الأولى
وشمعة روحه الثكلى وقد سقط التراب،
*
من البقاء إلى البقاء،
من الرماد إلى الفضاء
*
تعالي إلى حجرتي في المساء،
إلى غيمة شاردة،
تفتش عن موسم للشتاء،
أشم رطوبة عطر وشيئاً
من الملح والبحر والياسمين،
كأنك حقل من اللوز أزهرَ
هذا رحيق يهل فتصرخ فيّ المسافاتُ في بحةٍ،
وجيب وجيب كأن التراب الذي
جف في صيفه وانتظرْ
يلاوعه الغيم إذ مرّ يمنع عنه المطر،
أرى ما أرى في الظلامْ،
أرى نجمةً هبطت من علٍ
وأرخت إلى الرمل زنارها
فحلق سرب من الأقحوان
ليعلن للكون أسرارها
أرى ما أرى
كأن الظلام قصير هنا - كأن الظلام طويل هنا
أرى بلبلا من بلاد الصدى
يطوف بنرجسها مسهدا،
أوارٌ من الجوعِ،
لا تستقر الفراشات في زهرةٍ
فما من رحيق،
تعالي إلى خيمتي في المساء
سأكبح شوقي قليلا
لكي لا تذوب فراشات صدرك في نارهِ،
وكهف مغطى بعشب الندى
يغالب كفي بأسرارهِ
سينفرج الباب عن سحرهِ
وأدخل سرا إلى طقسهِ
حيث نار البدايات والخلقِ
حيث محيط من اللج في عمقهِ،
لأعبر ليل المسافات مني إليْ،
سأعبر مني إليْ،
لأكشف سر الرحيل،
فلم أُبقِ شيئا لدي،
تخففت من كل ما يستر الطينَ، ألقيت بالطين في لحظة وانطلقتْ،
لأقفز خلف الغزالة من كوكب في الشمال إلى كوكب في الجنوبِ
وابحث بين الورود وعند الينابيعْ،
وفي ظل عليقة لم تزل تشتعل،
أنادي وصلتْ،
حنيني إليكم، لمن غادروا فجأة،
لمن لم يعودوا من المستحيل،
لمن تركوا في فضاء النوافذ أحداقَهمْ
تطل وتسال ماذا جرى؟
لمن أطلقوا في نسيم الصباح نشيجاً
وما خلّف النوم في الذاكرة،
لمن سكبوا في ليالي الرحيلِ
جرارا من الشوق من حجرات القلوبِ،
وأوصوا بدالية الدار خيرا
وخيرا بآنية الورد والموسم المشمشيِ
وداعا إلى أن نؤوب،
تلملمنا نحلةٌ في رحيقٍ
ويجمعنا بلبلٌ في ربيع الحديقة أو زنبقة،
*
من البقاء إلى البقاء،
من الرماد إلى الفضاء
أرى ما أرى-قصيدة
((2))
متلفعا بغمامة سوداء يجذبني الرصيفْ،
هجرت مفاتنَها الشوارعُ واختفى العشاقُ
وانكسرت قوارير الضياءْ،
والريح: مأفون تجرأ ناثرا رمل الصحارى
في الأزقة والعيونْ ،
عادت لنا الصحراءْ،
حدقت في هذي السماءْ،
جرداء ما من نجمة ترنو ومن قمرٍ
وعلا العواء،
في قمة الليل البهيم علا العواءْ،
ذئب هنا- ذئب هناكَ
وفي الدهاليز الخفية أوغلت في غيّها
زمر الثعالب والضباعْ،
هوذا الجراد محلقا قضم المشارف والوهادْ
والقادمون على ظهور الغيمِ
في حزن المسافات البعيدةْ،
يتوشحون دماءهمْ،
ويسائلون الرعد عن وعدٍ وعن مطر الشتاءْ،
صمت وثرثرة على أطرافهِ
وكأننا كنا هنا من قبلُ
جئنا مرة في أول الليل الطويلِ
فأغلقت أبوابها مدنٌ
ولم تحفل بمقدمنا المنصات العريقةُ
وانتظرنا في رصيف الأولياءْ
لم نُبقِ من فَرْضٍ ولا ترنيمةٍ
يا سيدي افتح نوافذ رحمتكْ
أشعل لنا نارا إذا نهش الصقيع عظامنا
أطعم من الجوع اللئيم صغارنا
وهب الشباب عزيمة لا تنثني
وكرامة لا تنحني، وهب البنادق والبيارقْ
وهب القلوب سكينة الفجر الأكيدْ
طالت حبال السجنِ
لا برقٌ على جبلٍ ولا نارٌ على شط بعيدْ
لم يأت بعد قطارنا
حملته أجنحة الملائك مرةً
وهوى إلى الوديان وانحطم الرجاءْ
ها نحن ثانية نحدق في جدار الأشقياء
من أين نشعل شمعنا في الليلة الظلماءِ، إذ حان المسيرْ
كل القناديل التي كانت تلألئ نورها انطفأت،
وتفرق الحراس لا حصنا ولا جسرا.... وناموا
لي موقد أرخي على شطآنه وجع الليالي
قارئا في نورهِ ما تكتب الكف الخفية في الظلالِ:
جفت ينابيعٌ... وما جف السرابْ!!!!!
ما بين أوصال مقطعةٍ، وحمى، وخرابْ
ستعود أسواق النخاسة من جديدْ
فهراوة الشيطان في الأفق المدمى،
وتبدد النبعُ القديمُ
ونجمة ضاءت مفازتَكم طويلا
ثم ضاعت في ضباب الحالمين.
__أيلول، 2018____