في اليوم الأخير من السنة، ظهر عباس في حال أكثر بؤساً وشططاً من ذي قبل. وبالطبع، أحس أعتى الكارهين للرجل حتى النخاع، ومن يتمنون له المزيد من الغوص في الوحل ــ ولا يصح أن نكون من بين هؤلاء ــ بارتياح كبير لما رأوه في الشريط الأخير، إذ تبدى الرجل كمن يلهث محاولاً تغيير شيء من نتائج لعبة ورق، أدركته فيها الخسارة الفادحة ولم يتبق له سوى فحص أكمام الفائزين، لعله يضبطهم وقد خبأوا الجوكر فانفجر بالزعيق بأي كلام!
استخدم الرجل، مصطلح الجوسسة، علماً بأنه عاش سنوات حياته الأربعين الأخيرة، يسعى الى تخفيف وقع مصطلح الجوسسة في نفوس الناس، وتضييق الفجوة بين معاني تلك الذميمة الكافرة الفاجرة وبين السياسة، لكي يصبح التعاون مع العدو محض ممارسة طبيعية تقتضيها المصلحة العامة. فالاتصالات مع إسرائيل قبل مرحلة التسوية، سياسة وليست جوسسة، والتحريض على ياسر عرفات لدى الحكومات، اجتهاد واعتدال سياسي حميد، لا علاقة له بخيانة الأمانة، وإعلان العداء المستحكم للمقاومة بالسلاح، يُعد من الوطنية الرفيعة في حساباته ولا علاقة لها بجوهر شغل الجواسيس، والرفض التام إيلام المعتدين، ظل عنده إثم وفوضى وإرهاب، تماماً مثلما يُحسب في أعراف الجوسسة. وكراهية أي رد فعل عنفي على إسرائيل، سياسة حكيمة وليست وضاعة وتبريراً لتكريس ثقافة الرضوخ والهوان. أما تقديس هذا التعاون فهو ليس إلا براعة فقهية وليست من نتاج الصداقة مع أهل الجوسسة، والمفاخرة بتفتيش التلامذة في مدارسهم وضبطهم متلبسين بحمل سكاكين، وترديد هذا الأكذوبة التي تمس سمعة المجتمع الفلسطيني؛ ليست فعاليات جوسسة وإنما هي واجب وطني وعلامة اقتدار بمعايير عباس.
قلنا إن الذين أوغلوا في كراهية عباس، شعروا بالإرتياح لشكل ظهوره وطريقة صراخه عندما بدا وقد استبد به الوهن، متفلتاً من أي منطق، ولم يتبق لديه من السياسة سوى بدء الكلام بــ "هشتاج" يقول: "السلام عليكم والقدس ليست للبيع". كأن لديه شيء لكي يبيعه أو يستطيع بيعة، وكأنه ليس هو الذي أوصل حركة التحرر الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني الى حال البعثرة والتشظي والضعف واليأس، لكي يتقدم العدو بوتائر سريعة لتهويد أراضي الضفة وجمع التأييد لجعل القدس عاصمته، وتحسين موقفه في الأمم المتحدة.
عباس يبدأ الخطاب بما يظن إنها مأثرته الباهرة التي أحبطت مخططات الأعداء، فيعلن إن القدس ليست للبيع، وكأنه يملك بيعاً أو شراءً، أو كأن العدو الذي يراهن على التنسيق الأمني معه، يستأذنه بشأن القدس أو بشأن اقتحام رام الله!
الحاضرون في القاعة التي أفصح فيها عن نفسه، مجموعة من موظفين مرتاحين برواتبهم وترقياتهم، والرجل المأزوم يظن أنهم الشعب، أما المحتشدون لإيقاد الشعلة، والموظفون المتضررون من إقصاء غزة فليسوا شعباً. لم يشرح لنا مفهومه للشعلة التي يريد أن يحتفل الناس بإشعالها بجانب صورة كبيرة له. لم يقل لنا الى مذا ترمز والى ديمومة ماذا وبمن وكيف؟
لقد أوقد ألوف الفتحاويين في غياب صورته، شعلة الشباب والعزم على الإستمرار في الكفاح الوطني. فلا احتلال يمكن أن يبقى ولا حصار. وصورة عباس ترمز للمظالم والتمييز المناطقي والبغضاء العميقة لحركة فتح والتفرد وتدمير المؤسسات، زمراكمة ثروات الأبناء، ولا ترمز الى أي شيء آخر. وه نفسه لم يجرؤ على جمع ألوف في ساحة عامة في رام الله لإيقاد شعلة ترمز الى حماسة الأجيال!
في هذا السياق، كان بالطبع يستعر غضباً، لأن تيار فتح الإصلاحي بات يتصدر المشهد الفتحاوي، وجماهيره تعبر عن تمنيات كل الفتحاويين، الذين معه الذين تجبنوا قطع أرزاقهم. وجد الرجل نفسه في القاعة البائسة، يتكلم بعصبية اليائس، كمن يهذي ويقرر أن الآخرين جواسيس، وكأن أحداً يلتفت لما يقول، وكأن الشعب الفلسطيني غائب عن المشهد وفاقد للذاكرة، ولا يعرف من هم الخارجون على أعراف التمسك بالعروة الوطنية الوثقى!
ختاماً وبالمناسبة: كانت هناك محاولة من قبل بعض الإخوة الذين يوالون عباس، لإقامة مهرجان إيقاد الشعلة. وما حدث بالنسبة للتيار الإصلاحي، أن قيادة هذا التيار، تقدمت قبل أكثر من شهر، من السلطات الأمنية في غزة، بطلب إقامة مهرجان الشعلة. ولم يفعل ذلك الإخوة الموالون لأنهم يعرفون أن إعلان حل المجلس التشريعي وما رافقه من تعديات لفظية على حماس، ومفاقمة أزمة المشهد الفلسطيني وتسميم العلاقات الوطنية، لن يساعد على إقامة مهرجان تُرفع فيه صور عباس. ثم إن عباس نفسه، لن يقدم الموازنة الكافية لنقل الناس الى المهرجان، في حال وافقت حماس. فكل ما يتعلق بغزة، حتى ولو لتغطية كلفة طباعة صورة عباس، مشمول بتدابير الإقصاء. وبالتالي لم تكن لدى جماعته في غزة، تدابير فعلية جادة، ولم يطلبوا تصريح إقامة المهرجان!
في هذا الخضم، دفع أحمد حلس ببعض الشباب للتحرك دون أن يتواجد معهم، فتعرضوا للقمع الحمساوي الذي نرفضه بأشد العبارات. بعدئذٍ، كانت هناك محاولة من قبل موالين لعباس، لإقناع قيادة التيار الإصلاحي في غزة، بإتاحة الفرصة لأحمد حلس لإيقاد الشعلة. وبالطبع رفضت قيادة التيار الإصلاحي ذلك، لأن الأمور لا تتجزأ وليس هكذا تتحقق وحدة الحركة. وهنا نقول بدون أية حساسية: إن التيار الإصلاحي لا يعترف بنتائج اجتماع عباس الذي سماه مؤتمراً عاماً سابعاً لحركة فتح !
