الإعلام الدولى من المهنية إلى الأيديولوجية

thumbgen (20).jpg
حجم الخط

 

من المبادئ المهمة التى يطلع عليها طلاب كليات الإعلام، سواء فى مصر أو فى الخارج، أن الإعلام فى طوره الراهن بوجه عام لم يعد مجرد وسيلة للإخبار، بل أصبح وسيلة تمزج بين المعلومة والتحليل والرأى فى آن واحد.

وهى أمور تعبر -صراحة أو ضمناً- عن موقف سياسى وأيديولوجى بالدرجة الأولى. ينطبق ذلك على الصحافة المكتوبة والبرامج الإخبارية أياً كان شكلها فى القناة التليفزيونية، ويمتد الأمر إلى المواقع الإخبارية الإلكترونية بأشكالها المختلفة. وبالتالى فإن التعامل مع أى منها يتطلب، أولاً، معرفة الخريطة الإعلامية فى البلد المعنىّ محل الدراسة.

والخريطة هنا بمعنى مجموع الوسائل الإعلامية ونمط الملكية والعلاقة مع الأحزاب والقوى السياسية الموجودة فى البلد محل الدراسة، وبالتالى يمكن تحديد موقع الوسيلة الإعلامية من جملة التيارات السياسية الحاكمة فى البلد إذا كان من بلدان التعددية السياسية والحزبية والنقابية، وموقعها من السلطة الحاكمة إذا كانت فى بلد تنعدم فيه التعددية السياسية، أو تكون فيه تعددية سياسية وحزبية مقيدة بشكل ما.

ولذا فإن عنصر الملكية للوسيلة الإعلامية لا يعنى الكثير عند فحص الموقع الذى تختاره تلك الوسيلة لنفسها، ولا هو القدرات التقنية ولا عدد المراسلين الذين تجندهم من أجل جمع القصص والروايات والتحليلات المختلفة. بل الأهم هو ما الذى تعبر عنه تلك الوسيلة من أفكار ومبادئ سياسية وأيديولوجية. وفى الولايات المتحدة معروف موقع كل وسيلة إعلامية ومدى اقترابها أو ابتعادها عن أى من الحزبين الرئيسيين، وهناك من هو محسوب على طرف حزبى، يقابله آخرون محسوبون على الطرف الآخر. كما أن النقابات القوية لديها أيضاً وسائلها الإعلامية المعبرة عن مصالح مجموع أعضائها.

وفى البلاد ذات الحزب الواحد، من الطبيعى أن تكون الوسائل الإعلامية بأشكالها المختلفة معبرة عن فلسفة هذا الحزب والترويج لأفعاله.

وفى كثير من الحالات الدولية تحدث الاختراقات من قبَل جماعات أو دول لمؤسسات إعلامية كانت فى يوم من الأيام نموذجاً للإعلام الرصين، ومع خضوعها لسطوة المال الفاسد والفكر المنحرف، تتحول بقدرة قادر إلى بوق إعلامى فاسد بكل معنى الكلمة، ينشر الأكاذيب ويروج الإشاعات دون أدنى حمرة من خجل، وثمة حالات أمريكية وأوروبية شهيرة فقدت مكانتها حين انصاعت للمال الفاسد العابر للحدود.

وما دام الأمر مرتبطاً برسالة سامية تدّعيها الوسيلة الإعلامية لنفسها فإن مبدأ الحياد الشهير يصبح أمراً مستبعداً تماماً، بل وميئوس منه أيضاً. ولعل أسلوب القناة التى تبث من إحدى الدول الصغيرة فى الخليج عند تعاملها مع قضايا عربية ومصرية يوضح إلى أى مدى يؤثر الانحياز السياسى على المهنية، وأيضاً إلى أى مدى تؤثر الرسالة الإعلامية التى تلتزم بها القناة فى اختلاق الأكاذيب والتلاعب بالمعلومات والتركيز على أمور باهتة باعتبارها رئيسية، والعكس أيضاً. وهى تفعل ذلك عن اقتناع تام بأنها تؤدى دوراً مرسوماً بدقة يخدم توجهاتها الفكرية والسياسية، وبصورة تبدو مثالية مهنياً ولكنها خادعة موضوعياً، ولم يعد يهمها البحث عن الحقيقة ووضعها كما هى بدون رتوش أمام القارئ والمشاهد، أو توضيح الجوانب والعناصر المختلفة التى تؤثر على تطور الحدث بدون مبالغة أو افتئات. فى عالمنا الإعلامى المعاصر، وفى الغرب قبل الشرق، لم يعد التلاعب مقصوراً على تلوين الخبر أو نشره مجتزأ، بل أصبح التلاعب حرفة فى صناعة البرامج والحوارات، بل فى نشرات الأخبار عند استضافة خبراء ومحللين يُفترض أنهم سيقدمون تنويراً للمشاهد لإحدى النقاط الواردة فى خبر معين، فإذا بالحلقة أشبه بتمثيلية خداع وتزوير.

والتلاعب هنا له أشكاله العديدة، منها خداع الضيف ذاته عند الاتفاق معه على زاوية معينة، فإذا على الهواء يتم تغيير تلك الزاوية وتكون الأسئلة أقرب إلى الاتهامات منها إلى استفسارات تستهدف إجلاء الحقيقة أكثر أمام المشاهد، أو يتفق معه مسبقاً على مشاركة ضيف آخر محدد يزيد شرحاً فى زاوية أخرى، فإذا به على الهواء يجد شخصاً مختلفاً هدفه التخديم على سياسة القناة والتهوين مما يقوله هو، وهنا يظهر التواطؤ فى أجلى درجاته بين القناة ومقدم البرنامج وهذا الضيف العميل. وهو تواطؤ يجسد سياسة القناة قبل أى شىء.

كثير من تلك الخدع الإعلامية باتت مكشوفة لمن خبر هذا الأمر، ولمن مرت عليه تجارب بائسة فى قنوات عالمية شهيرة، أو كان باحثاً وخبيراً ومتابعاً جيداً لمثل تلك القنوات والإذاعات مهما كانت شهرتها، ولكنها فقدت أبسط قواعد المهنية والحيادية والموضوعية. ومثل هؤلاء الذين تعرضوا لهذه التجارب المريرة لم يفقدوا ثقتهم فى الإعلام بوجه عام، بل فى مثل تلك القنوات والإذاعات، ولم يعد يغريهم التعامل معهم تحت أى ظرف كان، فالمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.

التحوير والتبديل فى الحوارات واحدة من الخدع التى تلجأ إليها القنوات المبتذلة ومقدمو البرامج الساعون إلى شهرة كاذبة، وهم أقرب إلى المزورين والمهرجين وليسوا بإعلاميين. قد يصفق لهم مَن على شاكلتهم أو هؤلاء الذين يقدمون المنح للقناة برمتها، وهذا أمر بات معتاداً ومنتشراً للأسف الشديد.

والمهم أن يدرك الضيف الخريطة الإعلامية جيداً قبل أن يقدم على أى تعامل مع مثل هؤلاء. لا يهم الشهرة التى قد تحيط بهذا المذيع أو ذاك، المهم أن يكون لدى القناة المصداقية الإعلامية والحيادية والنزاهة.

فى مثل هذه المناسبات فإن الرجوع إلى الخبراء الإعلاميين هو الخطوة الأصح والتى لا غنى عنها. وحتى مع توافر المصداقية الإعلامية للقناة الساعية للحوار، فإن الاستعداد لكل ما هو مفاجئ وكل ما هو سلبى وغير معتاد يُعد أمراً لا غنى عنه. ومن قبيل الإعداد يمكن لفريق من الخبراء تصور جملة من القضايا والأسئلة التى يمكن توقعها، حتى ولو كانت بنسبة أقل من واحد فى المائة، مع إجابات محددة ولا تقبل التأويل أو التحريف، وفى صياغات مباشرة، بحيث يمكن الاستفادة منها حين إجراء الحوار.

الحوارات الإعلامية الجادة هى تلك التى تقدم حيزاً معرفياً يمزج بين المعلومة والرؤية، بين الموقف وعناصره وأسبابه ودوافعه ونتائجه. يمكن للمحاور أن يطرح أكثر من زاوية للقضية التى يريد أن يناقشها مع مسئول ما. الهدف هنا هو المعرفة وليس الإدانة أو التوريط أو التجريح أو الحشر فى الزاوية. من يلجأ إلى مثل هذه الأساليب المبتذلة وغير المهنية ليس أكثر من إعلامى فاسد وموتور أياً كانت شهرته وأياً كان راتبه السنوى.

عن الوطن المصرية