10 آب 2015
يوجد في تاريخ فرنسا تفسيران لكلمة Nationalism الأول هو الترتيب التسلسلي الزمني الذي أعطى إلهاما لليسار وحلم الشعب ووحدته في الثورة الفرنسية. هذا الشعب عرف نفسه عن طريق استبدال نظام سياسي جديد بالنظام الملكي الإقطاعي. بقوة روح الثورة، أعلن الفرنسيون مبادئ جديدة، عالمية، مساواة وحرية، وأوجدوا مؤسسات سياسية قوية تحقق هذه المبادئ. هذه المؤسسات والمبادئ تحولت الى مصدر وحدة قومية بسبب أنها كانت عالمية وفرنسية في الوقت ذاته (مسيرة 4 ملايين شخص بعد هجوم شارلي ايبدو هي تعبير مباشر عن الوحدة الوطنية والعالمية).
حددت هذه الوطنية المواطنة على هذا النحو، وانضمت الى الميثاق البريطاني العالمي، المتجسدة بلغة وثقافة محددة (مثلا إعلان حقوق الإنسان والمواطنة، العام 1789 كان فرنسيا وعالميا في الوقت ذاته. كان يهود فرنسا أول من استفاد من هذه الحقوق من بين مواطني أوروبا). لذلك ليس من المفاجئ انه خلال فترة طويلة كان اليسار الفرنسي قوميا (الأرستقراطية بالمقابل كانت دولية، الدوق الفرنسي كان ثمة الكثير مما هو مشترك بينه وبين الدوق في دولة أخرى).
غيرت الثورة بنية المجتمع الفرنسي، ولكن في القرن الـ 19 والـ 20 تطور رد مناهض للثورة برئاسة الأرستقراطيين، رجال دين ومفكرين انفعاليين. في البداية أراد معارضو الثورة إنشاء النظام الملكي من جديد وتحديد صلاحيات الدين، ومع الوقت غيرت الحركة نظرتها لمفهوم الأمة، حيث شمل داخله عناصر عنصرية وعرقية. في الوقت الذي رأى اليسار في القومية أداة فعالة لأجل إنشاء هوية جديدة (مثلا تحويل اليهودي الى فرنسي) فقد اعتبر اليمين الهوية فوق القومية.
توجه اليمين الى المحافظة، للكنيسة والنظريات العنصرية الجديدة من أجل تحديد الأمة بمفاهيم الطهارة العنصرية والثقافية والعرقية. تحولت هذه القومية الى ماركة فخر حملها اللاساميون، والملكيون، وكارهو الغرباء، من كاثوليكيين محافظين وعسكريين. آمنوا بهوية فرنسية متفوقة وأرادوا الدفاع عنها من خطر الألمان واليهود، أو باختصار، من هجوم الأعداء الخارجيين والداخليين.
تأجج الخيال السياسي لهذا اليمين بعد هزيمة الجيش الفرنسي في حرب فرنسا وبروسيا في السنوات 1870 – 1871 وقضية درايفوس في العام 1895، السعي إلى إعادة مجد الجيش الفرنسي ساعد في التعبير بقوة عن تداخل الدين، كراهية الغير، طهارة الجنس والقوة العسكرية، الأمر الذي هيأ الأجواء فيما بعد لنظام فيشي (الذي ولسخرية القدر تعاون مع الألمان بدلا من الانتصار عليهم) ومع ذلك فان من اللافت للانتباه انه باستثناء نظام فيشي فان اليمين لم يقترح أبدا إلغاء المواطنة الفرنسية لليهود.
بعد الحرب العالمية الأولى وبشكل أكثر وضوحا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث رأى اليسار الدمار والخراب الذي أحدثته الحروب في بلاده، تحول الى مسالم بسبب أفكاره العالمية، حيث ركز اكثر على حقوق الإنسان «في العالم الثالث» وطالب بإنهاء الكولونيالية، واهتم بالمهاجرين، وابتعد عن القومية، التي تختبئ وراءها الدول من اجل إخفاء سعيها وراء القوة. ووسع اهتمامه بمن ليس فرنسيا «طاهرا»، واقترح اليسار تعريفا أوسع للمفاهيم «أمة» و»قومية». بسبب هذا، وعلى الرغم من الفوارق الكثيرة بينهم، فانه بالنسبة لليمين واليمين المتطرف كان أسهل الإمساك بالفكرة القومية وتقديم انفسهم كحركات سياسية تدافع عن فرنسا والفرنسيين.
ثمة تشابه بارز للعيان بين تطور القومية في فرنسا وتطورها في إسرائيل. مثل الفرنسية فان القومية الإسرائيلية سابقا كانت يسارية، عالمية، علمانية واشتراكية، ومنحت حقوقا للمواطنين العرب، وأرادت خلق نموذج لليهودي الجديد يكون مختلفا عن يهود الشتات الذين حرموا من السيادة السياسية وسحقت الكراهية اللاسامية روحهم. القومية الإسرائيلية السابقة كانت نتاج قوة الرغبة والخيال والأمل.
مثلما في فرنسا، بعد أن تمت اقامة الدولة، انتقل اليسار الاسرائيلي للتركيز على (العدالة) في الكولونيالية الاسرائيلية، والتمييز ضد العرب، وتأثير الحرب الدائمة على المجتمع. أي اراد اليسار توسيع وتليين الاسرائيلية، وعليه مثلما حصل في فرنسا، كان من السهل على اليمين – واليمين المتطرف الادعاء بأن اليسار لا يهتم باليهود (لنتذكر وشوشة نتنياهو للحاخام كدوري في الحملة الانتخابية في العام 1999 بأن اليسار نسي ما يعني ان تكون يهوديا).
اذاً، قام اليمين الاسرائيلي بالخطوة ذاتها التي قام بها اليمين الفرنسي. أي اشتراط المواطنة بالهوية العرقية والدينية الطاهرة.
أصبح خطف القومية من قبل اليمين أسهل من فرنسا لأن الصهيونية القديمة – لليسار - كانت غير حاسمة؛ صحيح انها عالمية، ولكن داخل دولة يهودية لليهود. لذلك ومنذ بدايتها لم تستطع الصهيونية ان تقترح قومية عالمية كتلك التي كانت في فرنسا، لأن اليسار بقي مقيدا بعدم الحسم، استطاع اليمين ان يقدم نفسه على أنه الوحيد الذي يدافع عن الدولة «لليهود فقط» وتحويل الجيش والدين والعرقية للعامود الفقري للهوية الاسرائيلية القومية.
مثل فرنسا يدور في اسرائيل ايضا صراع بين موقفين مختلفين للقومية. واحد ينسب الكثير من القوة للدولة وقدرتها على انشاء هوية اسرائيلية جديدة تحوي داخلها اليهود والعرب. والثاني يعرف الهوية الاسرائيلية بمفاهيم الطهارة العرقية اليهودية والتفوق العسكري، ومثل اليمين الفرنسي المتطرف يبني اليمين الموجود الآن في السلطة سياسته حول الخوف من الاعداء الخارجيين والداخليين.
يتهم اعداءه الداخليين بضعف الانتماء ويتهم اعداءه الخارجيين بالبربرية، ويسعى بشكل مهووس الى تقوية الهوية للدولة في جميع المجالات. لكن المقارنة مع فرنسا مهمة ليس بسبب التشابه بين الدولتين وانما بسبب الفوارق بينهما.
الفارق الاول هو اضافة الى نظام فيشي، فان اليمين الكاثوليكي والعنصري والعنيف في فرنسا لم يسيطر على الدولة (الجنرال جورج بولونزيه الذي حاول استغلال الهزيمة امام بروسيا عرف لحظة سمو لكنه هرب سريعا من فرنسا). الامر المفاجئ هو أن قيم الجمهورية الفرنسية العلمانية العالمية مستمرة منذ 200 سنة. لا شك أن الصهيونية اختارت إدارة الصراع القومي الخاص بها في المكان الذي كان وما زال، تحت التهديد، وهذا يفسر الصعوبة الكامنة في الحفاظ على القيم الديمقراطية العالمية.
ثمة فرق مهم آخر هو ليس اختفاء اليسار فقط، بل اليمين ايضا. اليمين المتطرف هو الذي يحدد البرنامج اليومي، والصيغة الاصلاحية لليمين التي تحترم سلطة القانون والقيم الليبرالية قد اختفت. الفرق الثالث الذي هو الاهم، هو ان اليمين الاسرائيلي المتطرف يعمل ضد مصلحة الأمة التي يتحدث باسمها. وهو يفعل ذلك من خلال الطرق التالية:
1. يفضل اليمين الاسرائيلي بشكل واضح الحريديين – «شاس» و»يهدوت هتوراة»، وهما منظمتان غير صهيونيتين في مواقفهما الدينية – وهو يمنحهما حقوقا اضافية. في الاتفاقات الائتلافية الحالية مثلاً تم الغاء العقوبات الجنائية ضد طلاب المعاهد الدينية الذين يتهربون من التجند للجيش؛ وعادت مخصصات الاولاد الى المبالغ السابقة، وتم الغاء التقليصات في ميزانيات مؤسسات التعليم الحريدية التي لا تدرس مواضيع النزاع، وايضا تم الغاء اصلاحات التهويد. يصعب تخيل اليمين القومي الفرنسي يدعم حلم جماعات تستنكر بشكل علني شرعية السلطة القومية الفرنسية، حتى لو كانت هذه جماعات كاثوليكية.
2. يدعم اليمين الاسرائيلي السياسة الخارجية التي تتسبب في قطع العلاقات بين اسرائيل والكثير من يهود العالم، وبينها وبين حلفائها. لم تكن أبدا ثمة ازمة في العلاقات بين اسرائيل وبين اليهود، وبين اسرائيل والولايات المتحدة، بهذا الحجم. هذا يناقض الصهيونية القديمة التي اعتبرت نفسها ممثلة لكل اليهود، وعملت بلا تردد للحصول على الشرعية الدولية. لا حاجة الى التوجه الى منظمة «جي ستريت» من اجل الحصول على تأكيد ذلك. يمكن النظر الى الوكالة اليهودية. كُتب تقرير مؤخرا من معهد سياسة الشعب اليهودي، وهو منظمة اقيمت من قبل الوكالة اليهودية، يؤكد هذا الادعاء. في مقدمة التقرير يقول رئيس المعهد، افينوعم بار يوسيف، إن التقرير «يحول الاهتمام الى الصعوبة الاخذة في الازدياد عند كثير من اليهود لفهم السياسة الاسرائيلية على المدى البعيد». وان هناك ميولا متزايدة لدى يهود الشتات لاعتبار علاقتهم باسرائيل سببا في الانقسام في حياتهم الشخصية والجماهيرية. لذلك نضطر الى الاستنتاج بان اليمين الاسرائيلي لا يعطي اهمية لتعزيز السياسة الخارجية الاسرائيلية، سواء أكان الحديث عن علاقتها مع اليهود ام غير اليهود. ومرة اخرى لن نجد لدى اليمين واليمين المتطرف في فرنسا سلوكا كهذا، يعمل بشكل منهجي على تراجع التأييد من قبل الحلفاء الاستراتيجيين والمثقفين له.
3. يحول اليمين المتطرف الاسرائيلي اسرائيل الى دولة مع اغلبية عربية لأن المستوطنين – الذين يمثل مصالحهم – لا تهمهم حقيقة ان اسرائيل ستكف عن كونها ديمقراطية، وتسيطر على اغلبية عربية بالقوة (الامر الذي اصبح موجودا الآن). رداً على التقرير الذي عرض أمام الحكومة في العام 2011 والذي قيل فيه انه خلال بضع سنوات سيصبح العرب اغلبية بين النهر والبحر، أعلن نتنياهو أن المهم هو إيجاد «اغلبية يهودية واضحة» في حدود دولة اسرائيل (التي لم ترسم بعد). يعكس هذا الرد التجاهل الواضح لما تعتبره معظم الدول امرا حيويا من اجل قوتها: الوضوح الجغرافي. ومرة اخرى يصعب علينا تصور أن اليمين الفرنسي المتطرف يتخذ خطوات تسبب الغموض الجغرافي اللانهائي لبلاده وان يحولها الى دولة فصل عنصري عن طريق تحويل العرب المسلمين الى اغلبية فيها. اليمين الفرنسي المتطرف يفضل القوة في الحرية الجغرافية والديمغرافيا الكافية.
4. تنازل اليمين الاسرائيلي كليا عن خلق مرحلة جديدة غير مسبوقة في التاريخ اليهودي كما اقترحت الصهيونية القديمة، وبدلا من ذلك عاد الى الهوية والارث اليهودي. مثلا من خلال اتخاذ قرارات قضائية حسب الارث اليهودي (القانون الذي يمنع بيع الخميرة في عيد الفصح يستند الى الدين). اضافة الى ذلك، في حال وجود نقص في القانون «قانون اسس القضاء»، يكون على الجهاز القضائي قبول القرارات «حسب مبادئ الحرية والعدالة والاستقامة والسلام لإرث إسرائيل». وزير التعليم الجديد يستمر في هذا التوجه في تصريحاته حول الرغبة في تعزيز الهوية اليهودية.
اليمين الاسرائيلي، إذاً، لا يريد إنشاء هوية قومية جديدة، أي اسرائيلية. صحيح اكثر القول ان الهوية التي يقترحها هي تقليد للهوية الدينية ليهود الشتات، دون التنوع. ويصعب تصور اليمين الفرنسي يؤيد ان تكون القوانين والقيم المسيحية من العصور الوسطى ذات اولوية على القوانين والمعايير للامة الفرنسية.
5. اليمين الاسرائيلي يساعد الاغنياء في المجتمع الاسرائيلي، كما اشارت ستاف شبير – التي قد تكون عضوة الكنيست اليهودية الاكثر وعيا وخبرة اليوم – في خطاب في الكنيست (21/ 1)، يفضل اليمين أن يبذر موارد الدولة من اجل تأييد مصالح فئوية محددة على أن يمثل مصالح الجمهور. اتفاق الغاز مع «ديلك» ومع «نوبل انيرجي» يوضح ان دولة اسرائيل تحولت الى محامي مجموعات لها مصالح. والازدياد اللافت في غلاء المعيشة – لاسيما الغذاء والصحة والسكن – لم يكن ليحدث دون تعاون الدولة. يمكن قياس نتائج هذا الازدياد. توجد إسرائيل في المكان الخامس في عدم المساواة حسب مقياس جيني للعام 2011. غياب المساواة والفقر يعمل دائما وفي كل مكان عكس التضامن الاجتماعي؛ لأن الامة التي تمثل فقط مصالح الاقلية تعمل ضد التضامن الجماعي. وجميع الاحزاب اليمينية المتطرفة في اوروبا بما في ذلك فرنسا تعمل ضد الليبرالية الجديدة التي تسيطر على العالم في العقود الاخيرة وترتكز على الضمانة للدول التي ستقلص عدم المساواة.
رغم الفرق الواضح في الظروف التي يعمل فيها اليمين الفرنسي واليمين الاسرائيلي فان المقارنة التي تمت هنا ستساعدنا على فهم ما يستصعب فهمه الكثير من المحللين في الساحة السياسية الاسرائيلية اليوم، أي أن اليمين الاسرائيلي هو ظاهرة جديدة تماما، لا شبيه لها في اوروبا والولايات المتحدة: القومية التي اوجدها تخلط الطهارة العرقية الدينية والسيطرة العسكرية الدائمة على غير اليهود مع سياسة السيطرة، ولكن المضمونة، على حساب الامة. سبب ذلك هو ان اليمين الاسرائيلي ليس كيانا واحدا متبلورا، بل ائتلاف مجموعات مصالح، حريديين ومستوطنين ومسيحانيين ورأسماليين شرهين. هذا الائتلاف للمصالح الخاصة ينشئ طريقة اقطاعية جديدة، يعمل المواطن الاسرائيلي العادي من اجل تحقيق حاجات اسياد البلاد. اذا استيقظ الاسرائيليون فسيكتشفون ان دولة اسرائيل تم تدميرها داخليا ممن يزعمون أنهم يعملون من أجلها.
عن «هآرتس»