الحشد ضد إيران.. ماذا بعد؟

thumbgen (21).jpg
حجم الخط

 

لم يعد هناك أدنى شك فى أن الولايات المتحدة فى عهد الرئيس ترامب استطاعت أن تعيد ترتيب أولويات الشرق الأوسط على نحو أربك الكثيرين بمن فيهم حلفاء مقربون، وفتح المجال أمام العديد من التغيرات الكبرى، والتى فى غالبيتها ستنشئ نوعاً من الفوضى التى يصعب إن لم يكن يستحيل التحكم فيها، أو على الأقل ستدعم حالة عدم استقرار لفترة طويلة مقبلة. وفى جولة وزير الخارجية مايك بومبيو إلى عدد من دول المنطقة فى الأسبوع الماضى مؤشرات رئيسية على ما الذى يمكن أن يحدث فى مدى زمنى قريب للغاية. أبرز هذه المؤشرات أن الأولوية الأمريكية المطلقة هى للحشد الدولى والإقليمى ضد إيران، وهى خطوة متقدمة بعد تعزيز العقوبات الأمريكية عليها، والتى أصبحت ذات طابع عالمى إلى حد كبير، وبات من المستحيل على الاقتصاد الإيرانى أن يجد طرقاً التفافية تحيد تلك العقوبات، وهو ما تعكسه تصريحات كبار المسئولين الإيرانيين التى تعترف بالتأثير القوى لتلك العقوبات على الأداء الاقتصادى ككل وعلى الحياة اليومية لعموم الإيرانيين.

المؤشر الثانى عكس تأجيل، أو بالأحرى، تجاهل أى جهد يخص القضية الفلسطينية، أو ما يعرف أمريكياً بصفقة القرن، التى ما زالت ذات طابع سرى فى تفاصيلها، وهو تأجيل نبع من عدم حماس الأطراف العربية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية بالطرح الأمريكى المحتمل، بالإضافة إلى إسرائيل نفسها التى تجد الخيار الأفضل فى إنهاء الحديث عن أى مفاوضات مع الفلسطينيين تحت أى شعار كان.

المؤشر الثالث يرتبط بقرار الانسحاب من سوريا، وهو ما وصفه «بومبيو» بأنه تغير تكتيكى ولا يعنى غياب الحضور الأمريكى فى صلب سياسات المنطقة، فواشنطن ستظل منخرطة فى كل القضايا والتطورات بهدف الحفاظ على استقرارها وفقاً للرؤية الأمريكية، وستظل وفية لحلفائها الذين شاركوا معها فى هزيمة «داعش»، وفى مقدمتهم أكراد سوريا.

أما المؤشر الرابع فيتعلق باستمرار الدعم المطلق لإسرائيل، فى كل ما يتعلق بحماية أمنها ومواجهة أعدائها، وفى مقدمتهم إيران وامتداداتها المتمثلة فى الجماعات والمنظمات التى تعمل وفق أجندة طهران فى سوريا والعراق ولبنان واليمن.

المؤشر الخامس تمثل فى التشديد على وحدة مجلس التعاون الخليجى، التى تعنى حرصاً على دفع مصالحة خليجية، وإنهاء مقاطعة كل من السعودية والإمارات والبحرين لقطر، دون وضع أسس لتلك المصالحة. وفى الآن نفسه تأكيد الانحياز لقطر وتعزيز الوجود الأمريكى فى قاعدة العديد.

المؤشرات الخمسة تتجمع حول هدف أكبر لا تخفيه الولايات المتحدة وهو قصم ظهر إيران، والعمل على إخراجها من معادلات المنطقة مهزومة ومنكسرة تماماً. وهو عمل تشارك فيه إسرائيل بكل همة ونشاط. وساحته الأبرز حالياً فى سوريا. ويلفت النظر تحركان إسرائيليان تزامنا مع جولة «بومبيو»؛ الأول قيام إسرائيل بتوجيه ضربة صاروخية لمواقع قريبة من مطار دمشق فجر الجمعة الماضى كان من بينها مخزن للأسلحة، أعلن عنها «نتنياهو» بنفسه ومبرراً هذا التصرف بأن تلك الأسلحة إيرانية، وأن الضربة تأكيد على إصرار حكومته على تدمير البنية التحتية لأى تموضع إيرانى فى سوريا. ورغم ما يمكن ربطه بين هذا الإعلان النادر عن ضربة موجهة إلى مواقع قريبة من العاصمة السورية، وبين مناخ الانتخابات الإسرائيلية ونوايا «نتنياهو» فى تأكيد زعامته القائمة على حماية أمن إسرائيل بكل الطرق ومن ثم الحصول على مزيد من الأصوات لحزبه، لكن يظل هذا الإعلان الصريح مؤشراً على تغير استراتيجية تل أبيب ضد إيران، وأن المرحلة المقبلة ستشهد المزيد من تلك الضربات المُعلن عنها استناداً إلى وجود استخباراتى إسرائيلى قوى ومتغلغل فى الأراضى السورية.

أما التحرك الثانى فهو هذا الحوار الصريح لرئيس الأركان الإسرائيلى، غازى إيزكنوتى، إلى صحيفة صنداى تايمز، والذى كشف فيه عن ما وصفه بالحرب السرية ضد إيران فى سوريا، والتى أصبحت علنية الآن. وملخص ما قاله الرجل أن العامين الماضيين شهدا عدداً هائلاً من الضربات والعمليات فى الأراضى السورية ضد الوجود الإيرانى، ولم يكن يُعلن عنها فى السابق، بيد أن الإيرانيين كانوا يعلمون جيداً من قام بهذه الضربات، وأن عدم الإعلان الإسرائيلى كان يبرر للإيرانيين عدم الرد. وحدد الرجل الهدف الأكبر لتلك الضربات بمنع إيران من تشكيل هلال شيعى يمتد من طهران ويمر بالعراق وسوريا حتى لبنان، وأنهم نجحوا فى ذلك من خلال توظيف حالة الضعف التى تمر بها سوريا الآن، وسيظلون على هذا المنوال إلى أن تخرج إيران من الأراضى السورية.

الولايات المتحدة من جانبها تتقدم خطوات فى عملية الحشد ضد إيران، سواء من خلال التأكيد على ضرورة بناء تحالف استراتيجى من عدة دول من المنطقة يكون هدفه محاصرة ما تعتبره السياسات العدوانية الإيرانية، أو من خلال تجميع أكبر عدد ممكن من البلاد لتشكل حليفاً دولياً عريضاً للولايات المتحدة لمزيد من عزل إيران من جانب، ولتأييد أى خطوات أمريكية عسكرية أو غير عسكرية قد تلجأ إليها واشنطن فى المستقبل ضد طهران من جانب آخر. وهو ما ستعمل عليه واشنطن فى مؤتمر وارسو منتصف فبراير المقبل، وسيشارك فيه عدد كبير من الدول من القارات الخمس.

مثل هذا الحشد ضد إيران ليس لأسباب سياسية أو دوافع اقتصادية وحسب، إذ ثمة خطوة أخرى متوقعة تعنى عملاً مباشراً ضد إيران أو أحد امتداداتها فى المنطقة، والمحتمل أن يكون عملاً كبيراً، تتجاوز أهدافه الضغط المباشر على النظام الإيرانى إلى إسقاطه أو دفع إيران نحو فوضى كبرى، وفى أقل الأحوال استنزاف القدرات العسكرية الإيرانية، لا سيما الصاروخية الباليستية، وإلحاق هزيمة معنوية كبرى للنظام، خاصة الحرس الثورى. التوسع الأمريكى فى قاعدة العديد بقطر الذى اتفق عليه مؤخراً، ونقل المعدات الأمريكية من سوريا إلى داخل الأراضى العراقية، والجرأة الإسرائيلية فى زيادة معدلات الهجوم على مواقع تتبع إيران فى الأراضى السورية أو تتبع الجيش السورى نفسه لا تنفصل عما تحضر له الولايات المتحدة. إصرار الرئيس ترامب على إنهاك إيران اقتصادياً ليس خاتمة المطاف، إيران تدرك ذلك جيداً، كما تدرك أن دخولها فى مواجهة عسكرية كبرى مع الولايات المتحدة لن يحقق لها أى انتصار مهما وجهت ضربات للمصالح الأمريكية فى المنطقة. الخيار المتاح لها أن تصدر الفوضى إلى كل مكان صنعت فيه مؤيدين وحلفاء. الحشد الأمريكى بالمعنى السابق يفتح أبواباً من الجحيم على الجميع.

عن الوطن المصرية