خمس مضين، ولكن ستظل حاضرة، خالدة كخلود روائعها..
الفن والوعي، هو وصف لرحلة فاتن حمامة، فنانة ومفكرة، الإنسانة العظيمة، حيث رافقت الأسرة العربية على مدار 75 عاما، هي أكبر رحلة فنية لفنانة ابتدأت التمثيل طفلة لم تتجاوز التاسعة.
لعله ما يشبه الظاهرة-المعجزة، أي أن الفنانة منذ حداثة سنها حتى أواخر سنوات العمر، لم تشترك في أي عمل فني هابط، بل إن وجود فاتن حمامة في أي عمل فني كان يعني نجاحه.
من يوم سعيد للمخرج محمد كريم وتمثيل محمد عبد الوهاب 1940، فيلم "يوم حلو يوم مرّ" للمخرج خيري بشارة عام 1988، حيث أذكر وقتها أن عددا من النقاد والكتاب ربطوا بين العملين، كأنهم قصدوا وقتها العمل الأول متوقعين أن يكون "يوم حلو يوم مرّ" الأخير لها، أو لربما لربط إنساني عبر التاريخ، من يوم سعيد لطفولة سعيدة، إلى الحياة الواقعية بما فيها من مشاعر مختلفة، بطعوم مختلفة أيضا.
لكن لعل قصة وفكرة فيلم "أرض الأحلام 1993" الذي أخرجه داود عبد السيّد كأحد المخرجين المبدعين، قد أغراها لتمثيل دور مهم لها، بدافع وجودي وفلسفي ووطني.
تستعد نرجس الشخصية التي أدتها السيدة فاتن حمامة للسفر للهجرة إلى أمريكا لتلحق بأولادها، لكنها تفقد جواز سفرها قبل السفر بساعات، وعليها أن تعثر عليه في الأماكن التي ذهبت إليها، أو لدى الأشخاص الذين قابلتهم. أثناء ذلك تلتقي بساحر غريب الأطوار يحيى الفخراني يجوب ملاهي المدينة، وتتعرض لأحداث عديدة تغير من وجهة نظرها في السفر. في النهاية تعثر على جواز سفرها في قاع حقيبتها، وتقرر عدم السفر.
فرغم النزق والانفعال والغضب والتوتر الذي ظهر في الأحداث بسبب التعلق بفكرة الخلاص عبر السفر، إلا أنها تكتشف في النهاية أن أرض الأحلام هنا في الوطن. إنه دافع وجودي عميق، ارتدى الفلسفة، بمشاعر إنسانية ووطنية.
كأن فاتن أرادت إيصال هذه الرسالة لكل المهاجرين أو الذين يفكرون بالرحيل والهجرة، فكان الفيلم محققا لدور الفن النبيل.
"أرض الأحلام" إذن فيلم مصري وعربي وعالمي، يأخذ اليوم بعد عقدين من الزمن معنى وحاجة للبشر، للتفكير بما هو أبعد من اللحظة الحاضرة، إلى المستقبل بما فيه من رحابة، حيث يصبح الخلاص شعبيا وقوميا لا فرديا.
العصر الذهبي
يقودنا ما ابتدأنا به إلى تلمس فترة الخمسينيات، التي كانت سينمائيا بداية ما سمي العصر الذهبي للسينما المصرية، وكان التوجه العام في ذلك الوقت نحو الواقعية وخاصة على يد المخرج صلاح أبو سيف.
ولعلّ فاتن حمامة كانت من اللواتي فتحن هذا العصر، حيث قامت بدور البطولة في فيلم "لك يوم يا ظالم" (1952) الذي اعتبر من أوائل الأفلام الواقعية الذي وصل بمهنيته إلى مهرجان كان السينمائي. كما اشتركت في أول فيلم للمخرج يوسف شاهين "بابا أمين" (1950) ثم في فيلم صراع في الوادي (1954) الذي كان منافسا رئيسيا في مهرجان كان السينمائي. كذلك اشتركت في أول فيلم للمخرج كمال الشيخ "المنزل رقم 13" الذي يعتبر من أوائل أفلام اللغز أو الغموض. في عام 1963 حصلت على جائزة أحسن ممثلة في الفيلم السياسي "لا وقت للحب" (1963).
النضج الفني
ويرى معظم النقاد أنها وصلت إلى مرحلة النضج الفني في فيلم "دعاء الكروان" المأخوذ عن رواية عميد الأدب العربي طه حسين (1959) الذي اختير كواحد من أحسن ما أنتجته السينما المصرية. وكانت الشخصية التي قامت بتجسيدها معقدة جدًا من الناحية النفسية، كما قال النقاد، ولعلنا نتذكر إبداعها التمثيلي في التعبير عن مشاعر متناقضة، فهي مدبرة المنزل في بيت السيد الذي كان سببا في موت أختها، وهي من جهة أخرى أنثى سعت إلى فعل لا الاكتفاء بالرثاء.
ومنذ "دعاء الكروان" هذا الفيلم بدأت بانتقاء أدوارها بعناية فتلا هذا الفيلم فيلم "نهر الحب" (1960) الذي كان مستندًا على رواية ليو تولستوي الشهيرة "آنا كارنينا" وفيلم "لا تطفئ الشمس" (1961) عن رواية إحسان عبد القدوس وفيلم "لا وقت للحب" (1963) عن رواية يوسف إدريس.
التحولات الاجتماعية والمرأة
لم تقبل فاتن حمامة ان تظل محصورة في أدوار نمطية، بل طمحت إلى ما ينسجم مع التنوير الثقافي الذي ظهر في مصر والعالم العربي.
عندما بدأت مشوارها في السينما المصرية كان النمط السائد للتعبير عن الشخصية النسائية للمرأة المصرية في الأفلام تمشي على وتيرة واحدة، حيث كانت المرأة في أفلام ذلك الوقت إما برجوازية غير واقعية تمضي معظم وقتها في نوادي الطبقات الراقية، وكانت إما تطارد الرجال أو بالعكس، وأيضا كانت هناك نزعة على تمثيل المرأة كسلعة جسدية، لإضافة طابع الإغراء لأفلام ذلك الوقت، وكانت معظم الممثلات في ذلك الوقت يجدن الغناء أو الرقص.
لذلك، فكما رفضت فاتن النمط السائد للمرأة التي مال إلى تصويرها المنتجون من أجل تسويق الأفلام، فإنها أيضا رفضت الاستمرار في تمثيل دور الفتاة المسكينة البريئة. وقد انسجم ذلك مع التوجه العام في السينما المصرية نحو الواقعية، حيث راحت تجسّد شخصيات أقرب إلى الواقع؛ ففي فيلم "صراع في الوادي" (1954) جسدت شخصية مختلفة لابنة الباشا فلم تكن تلك الابنة السطحية لرجل ثري وإنما كانت متعاطفة مع الفقراء والمسحوقين وقامت بمساندتهم. وفي فيلم "الأستاذة فاطمة" (1952) مثلت دور طالبة في كلية الحقوق من عائلة متوسطة وكانت تؤمن إن للنساء دورًا يوازي دور الرجال في المجتمع. وفي فيلم "إمبراطورية ميم" (1972) مثلت دور الأم التي كانت مسؤولة عن عائلتها في ظل غياب الأب. وفي فيلم "أريد حلا" (1975) جسدت دور امرأة معاصرة تحاول أن يعاملها القانون بالمساواة مع الرجل. وفي عام 1988 قدمت مع المخرج خيري بشارة فيلم "يوم حلو يوم مر" الذي تحدثنا عنه في بداية مقالنا، حيث "لعبت فيه دور أرملة في عصر الانفتاح، والمبادئ المتقلبة، وتحمل هذه الأرملة أعباء ثقيلة جدا دون أن تشكو وكلها أمل بالوصول إلى يوم حلو لتمسح ذاكرة اليوم المر" كما ذكر النقاد.
تحولات سياسية
إن وعي الفنانة الراحلة اجتماعيا لم يكن بعيدا عن وعيها السياسي، فرغم إيجابيات وتطورات حدثت في مصر والعالم العربي بعد الاستعمار، إلا أنه ظهرت إشكاليات في الحكم الوطني في الستينيات، خصوصا في موضوع الحريّات، دفعتها إلى الاغتراب، "احتجاجًا لضغوط سياسية تعرضت لها، حيث كانت خلال تلك السنوات تتنقل بين بيروت ولندن، وكان السبب الرئيسي وعلى لسانها "ظلم الناس وأخذهم من بيوتهم ظلماً للسجن في منتصف الليل".
من ناحية أخرى، فهي في ظل احتجاجها على استبداد الستينيات، فإنها وقد عادت إلى مصر، احتجت على انفتاح السبعينيات وما بعد، ويمكن قراءة مسلسل "ضمير أبلة حكمت" المنتج في أوائل التسعينيات، من هذا المنظور. لقد عبّر المسلسل عن التحولات الاجتماعية والسياسية، وما يواكبها من تغير السلوك لا يبعد عن احتمال كبير بتوجيه نقد سياسي لعصر للحكم في الثمانينات والتسعينيات، بسبب موقف الكاتب وربما موقف الفنانة فاتن حمامة الفكري والسياسي من الحكم وسياسات الانفتاح وما واكبها من سلوك.
كانت فاتن حمامة تنطلق إنسانيا في فنها، وقد انسجمت مع نفسها، وتصالحت معها إلى أبعد الحدود. كانت الحرية لديها قيمة كاملة غير منقوصة اجتماعيا وسياسيا، وأثبتت من خلال أفلامها أن الحرية أبدا لا تتناقض مع القيم والأخلاق.
إنها هي وهي تنتصر للمرأة، في الحقوق الاجتماعية، وهي نفسها التي تنتصر للحقوق الاقتصادية والسياسية.
الفكر الاجتماعي والسياسي والإنساني لديها تعانق مع الإبداع الفني، فاحترمها العالم أجمع؛ فليس من الصدفة اختيارها عضوة في لجنة التحكيم في مهرجانات موسكو وكان والقاهرة والمغرب والبندقية وطهران والإسكندرية وجاكرتا..بل هو من مصداقيتها وإيمانها بدور الفن في التنوير والعدالة.
سيدة الشاشة
تعود قصة اللقب إلى منتصف الخمسينات حينما قدمت فاتن فيلم "موعد مع الحياة" الذي شاركتها بطولته الفنانة شادية وشكري سرحان وعمر الحريري. وبعد عرض الفيلم الذي لاقى نجاحاً جماهيرياً، كتب الصحافي فوميل لبيب مقالا أشاد فيه بالفيلم بوجه عام وبأداء فاتن حمامة فيه على وجه الخصوص. واصفاً إياها بلقب "سيدة الشاشة العربية"
وأخيرا تستحق الفنانة الراحلة فاتن حمامة تكريمها في حياتها وموتها، فلم يكن إعلان وزير الثقافة، الحداد لمدة يومين، آتيا من فراغ في كل ما يتصل بقطاع الثقافة الحكومي، حزنا على رحيلها، في سابقة ربما هي الأولى من نوعها.